عندما بدأ التفكير الجاد ـ من لدن نخبة متنورة من أبناء هذا البلد في منتصف القرن الماضي ـ بإنشاء دولة موريتانية (من شبه فراغ تاريخي وتنظيمي "نموذج ذاتي") وقفت المؤسسة السياسية الوحيدة المنتظمة "القبيلة" في وجه "فعالية" ذلك المشروع؛
لما رأت فيه من تهديد لمنظومتها؛ لكن حكمة القائمين على المشروع الناشئ، وجدية مسعاهم، واستيعابهم لسيكولوجية المجتمع..كلها أمور ساهمت في خلق جو من الثقة بين المشروع الجديد
"الدولة" والمؤسسة القائمة "القبيلة" ضف إلى ذلك طبقة متعلمة طور التشكل؛ ستكون لاحقا بذرة مجتمع تحرري يحارب كل المكونات التقليدية، ويسعى لخلق مجتمع بمفاهيم "المدنية" والدولة الحديثة..ثم جاء "العسكر" مستفيدين من قوالب تقليدية جديدة ـ على الأقل في توظيفها واستغلالها السياسي ـ مثل الجهة والعرق..بالإضافة إلى مكون يفترض أنه من مكونات الدولة الحديثة "الجيش" وظلت العلاقة "الطردية" بين "الدولة" و"المكون التقليدي" رغم ذلك لصالح الدولة؛ وإن انحرفت الدولة أحيانا أو مالت لصالح مكون من المكونات التقليدية..إلى أن اضطر العسكر ـ في بداية التسعينات ـ إلى الانحناء لعاصفة "الديمقراطية" ولأن ميزان القوة ـ حينها ـ لايزال يميل لصالح الدولة، كاد يحدث التغيير؛ فزُوِّرت الانتخابات، وبدأ النظام يبحث عن استيراتيجية تضمن له "الأبدية" فلجأ إلى التعامل مع "القبيلة" و"الجهة" فوظف الأولى لصالحه؛ والثانية لتشويه خصمه، وبدأت الدولة تضعف لصالح القبيلة والجهة..!
وحتى عندما توهم البعض التغيير 2005 وأجريت الانتخابات 2006 كانت الاعتبارت التقليدية واقعا تعامل معه الكل؛ إلا أن المرحلة الجديدة هي الأكثر "استثمارا" لذلك النسق؛ ربما يتعلق الأمر بالاستفادة من التاريخ السياسي الحديث؛ ومرد ذلك واضح ومستساغ!!
من هنا فكر "نبيه بري" في طبقة سياسية جديدة محكومة بخلفيات تقليدية جديدة؛ فقرر "تحوير" القبيلة والجهة وصهرهما في "بوتقة" جديدة، تستغل من خلالها "الطبقية" وتسوق على أساس أنها شرائحية!!
لكن الغائب عن "نبيه بري" أن هذا لن يُنْتِجَ إلا قبائل متصادمة في داخلها، ودولة منهكة بالمكونات الصغرى!!
العبودية مظلمة بشرية تاريخية؛ والدولة عليها تحمل مسؤولياتها كاملة تجاهها وتجاه آثارها؛ أما تركبة المجتمع و"طبقيته" فتُصَاغُ وفق تكاملات تمليها ـ في الغالب ـ اعتبارات ثقافية؛ قد لا نكون راضين عنها؛ لكنها ليست "مظالم" بالضرورة!
كل هذا الانفجار "المجتمعي" يقع في مكون ثقافي "واحد" من المكونات الأربعة المشكلة لخارطة الوطن؛ رغم أن بقية المكونات ليست بمعزل عنه؛ لكن أن يكون على حساب مكون يشكل ملمحا أساسيا من "هوية" البلد، فهذا ما أعتقد أنه لن يزيد الهوية إلا تيها!
لن يقتصر الأمر على "حراك لمعلمين" بل سيتجاوزه إلى كل بِنَاءِ القبيلة "آزناقة" "إيكاون" "حسان" "الطلبه" "العرب" "الزوايا"..بل قد يتجاوز ذلك إلى اعتبارات أضيق؛ فقد يثور "عبيد لمعلمين" على أساس أن أسيادهم لم يكونوا نبلاء..!!!
إذا كانت الدولة مسؤولة عن رفع المظالم؛ فإنها أيضا مسؤولة عن لحمة المجتمع!!!