يؤكد علم النفس الحديث أن الأمراض النفسية لا تصيب الإنسان الفرد فقط و إنما تتعدى ذلك إلى إصابة المجموعات و هي أيضا تنخر عظام الأفكار الإنسانية والأيديولوجية أيا كان مضمونها و نسقها.
كما أنه من المسلمات التي لا يرقى إليها الشك أن للشعوب نفسيات عامة تختلف عليها شتى المشاعر، وتتوارد عليها الأحوال المتباينة، وتستقبل بها ما يعرض لها من المشكلات على النحو الذي تشاء من حفاوة أو جمود، ومن استخفاف أو جد و من إعلان أو تغاض.
وهذه النفسيات في عمومها غامرة وقاهرة، تفرض مسلكها على المجتمع، فلا يكاد ينجو من ضغطها احد كما أنها بكل ذلك متغلغلة و مطردة، تتناقلها القرون ويستلمها اللاحق عن السابق ليظل طابعها واضحا في التقاليد والعادات، وسائر عناصر بيئة المجتمع.
و أما "السّادية" ففي تعريفها السيكولوجي هي شعورٌ متطرّف لدى الإنسان المصاب برغبة تعذيب الآخرين وما يرافقها من لذّة غريزيّة فيما "المازوشية" هي انعكاس "السادية" تماماً أي أنها مرضٌ نفسيٌّ لدى الإنسان الذي يرغب بتعذيب نفسه، وإن لم يجد من يعذّبه، يقوم هو بفعل التعذيب عبر الأوهام النفسية اللاواعية. و لإن كان هذان التعريفان لا يشملان إلا الفرد إلا أنهما أضحيا يسممان عرضا بعض جوانب الفكر الإنساني في الحالات المجتمعية المرتهنة لبعد الوعي و قصور همة أهله.
يعيش أغلب الموريتانيون منذ الاستقلال حالات متعددة من الاضطراب النفسي و و شبه انفصام الشخصية و التحلل من الالتزامات الأخلاقية التي كانت قائمة على هشاشتها نتيجة جملة من العوامل التي جاءت كلها متناقضة هي الأخرى في مضامينها، متعسفة في بنياتها و مربكة للنظم الاجتماعية التي كانت سائدة و النفسيات التي كانت ناظمة هي الأخرى على علاتها للتفكير الجمعوي، موجهة لسياق و نسق التعامل بين الأفراد و مع المجموعات.
ففي حين عنت الدولة المركزية عند قيامها إلقاء كل الاعتبارات سبيلا إلى ترسيخ المواطنة و الانتماء قلبا و قالبا للوطن الذي أقيمت حدوده و ضبطت خصوصياته، ظل لانتماء للذات المفردة مطلقا و للقبيلة أو الاثنية على ضيق مساحتها في الجسم العام للأمة ثانيا و بكل ما يعنيه و ما يحتويه الأمر من نفسيات يُسير بها الواقع في غفلة اليقظة على حال مغايرة لكل مفاهيم الدولة الحديثة و مآثرها الحميدة في دائرة إنسانية عادلة و عقلية متجددة و متحررة من العقد المقيدة و الأنانية البهيمية التي تجاوزها العقل في هذا العصر برحابة أفقه الجديد و وسائله التواصلية و التبادلية و التكاملية الحديثة التي تجمع بين التنوير و التجرد و التحليل و الاستنباط و التقنين و الإنصاف.
لم يفلح الرخاء النسبي الذي ما عرف له الشعب الموريتاني مثيلا في السابق و لم تتمكن الموجة العارمة من الوعي الديني المتفتح بمقاييسه العالمية المسايرة لضرورات العصر مما تنضح به تأويلات أئمته و شيوخه الكثيرين المنتشرين في أصقاع العالم الإسلامي تعريفا لا وحدة، و لا الاديولوجيات التي اخترقت عقول المتعلمين و المثقفين مع انتشار التدريس و الأخذ بالعارف في المؤسسات التعليمية العالمية العالية أن يؤثر في هذه العقليات و النفسيات العصية و لا أن يكسر من شوكة جوانبها السلبية التي لا تزال تنتمي في مجملها لعهود كان الظلم فيها سيد الصفات و إنما كانت كذلك في دائرته تشكل، في ثنائية غريبة من نوعها تحصر الدواء في الداء، ردود الفعل الكفيلة برد جماح هذا الظلم المستشري و خلق توازنات تبقي الجميع في حيز البقاء و لكن في حالة استنفار كما تبرر المسطرة التعاملية التي تصدر عنه و تدار ضمنها بمنهجيته القوانين و إجراءاتها و المعاملات و العلاقات بكل ملامحها و سائر تجلياتها.
و إذا لم يكن الأمر كذلك فكيف يفسر إذا تجلي الوضعية النفسية القائمة اليوم ما بين:
· تصرفات فئات عريضة من المجتمع بعقليات ما زالت تعتمد "الفوقية" "عدالة إلهية" و لو بصياغتها للوازم التحول الذي فرض نفسه في قوالب يغلب عليها التمويه المكشوف من جهة، و ترفع القناع عن "سادية" بالكاد كانت تخفى ملامحها،
· و الوضعية النفسية لفئات أخرى ما زالت تندب حظها العاثر متجسدا في "تحتيتها" البنيوية ضمن سجل المسطرة التراتبية التي تكاد مازوشيسية أهلها تفقأ المقل من جهة أخرى؟
و هل يغيب عن الألباب ما يترتب عن هاتين الوضعيتين من نشاز في الطباع المضطربة أولا و بما هو مكشوف من التموقع في سياق منهجية سير الدولة منذ نشأتها في هذا الإطار ثانيا؟
و بالطبع فإن هذه المسلكيات تأخذ كل تطبيقاتها في الشارع العام و في دائرة الزمن العملي المشترك قبل البيت و حميميات الانتساب الأسري و القبلي و المجتمعي؛ مسلكيات تستعص على كل منطق و تخالف في لبها شرع الله لمن لا يخاف فيه لومة لائم و في ظاهرها الموضوعَ مما اتُفِقَ عليه من القواعد المضبوطة في سجل قانوني محكم بقواعد محل إجماع الحقوقيين المبرزين و المؤتمنين عند الذين يدافعون عن الدولة المدنية العادلة و الواعية.
أو ليس الصراع في ذلك التحرك خارج إطار "دولة القانون للجميع" قائما عند المكون العربي بين أبناء الأسر "المعلومة" أي الرفيعة النسب العالية المقام و بين الأسر "الواطئة" أي الدنيئة الأفعال المعدومة الأصل، و بالمقابل من ذلك في الاثنيات الزنجية بين أبناء الأسر على "رأس الهر"م و وبين أبناء الأسر في "أدنى المراتب" و جحيم الطبقات الواطئة؟
و بالموازاة من ذلك أفلا يكون هذا الصراع في وجهه المقابل هو انتفاضة الأسر "الواطئة" و "أبناء الأسر في أدنى المراتب" على وضعهم القائم المرفوض و بالإسراف في معالجته على غير ما تَعقل و بتصرف لا يراعي حيثيات النضال المؤطر من أجل المساواة في الحقوق مع الحفاظ، في وطن يحتاج السكينة، على الواجبات التي لا يسقطها وضع أيا كانت حدته، و في انتهاج نفس السبيل و تبني ذات مسلكيات الآخر المجحفة و المخلة بروح الدين و معطى التحضر؟
و لا يقتصر الأمر على المسلكيات دون لغات المخاطبة التي أبانت بالرغم من وحدتها اللفظية عن أنها تفصل في تناقض غريب ومضحك كل متحدثيها في دائرة كل مكون انتمائي بواقع أدائها و تشفير رسائلها. فبينما تتسم لغة "العلية" بالتبعيض و التصغير من حول "أناهم" المتضخمة و عقدة الاستعلاء المعشعشة في عقولهم كأن لا وزير على ألسنتهم بل "وُزُيِر" و لا رجل بل "رُويجٍل" و هلم جرى، فإن لغة "الواطئة" تأخذ منحى التهويل و التهكم في دائرة المواجهة الصامتة، التي يؤدون بعقدة النقص التي تربك تحررهم من القيود الوهمية، كإطلاق النعوت و الأوصاف الكثيرة التي يزخر بها القاموس اللفظي و كملاذ و متنفس لما تضج به النفوس من معاناة و مرارة تماما كما كان "البلغار" يفعلون تحت نير العثمانيين حينما عجنوا الخبزة على شكل هلال ليأكلوها على أنها في رمزية ذلك انتقام شديد من الذين غلبوهم على أمرهم لأن الهلال كان رمزهم الذي يتوسط علمهم.
و إن هذا ما جعل الحابل يختلط في دورة حياة البلد المضطربة بالنابل نتيجة تلك الازدواجية في التعامل مع إفرازات النفسيات القائمة، و يزيد من تعقيد إشكال انفصام الأمة عن مسار نظيراتها في كل القارات و ينذر بمزيد من هذا الوضع الشاذ الذي يجر باتجاه اضمحلال الدولة و تهيئة الأسباب و المبررات لانزلاقها إلى مآل الزوال في رحلة الاستعصاء على التغيير و التحول الإيجابي الذي يُطًلقُ كليا مع مفاهيم و عقليات و نفسيات ولى زمانها و انكسر وعاؤها.
هي مجرد أسئلة من بين العشرات التي تتطلب أجوبة ملحة في واقع الأمر و إن صُمت عنها الآذان في خضم اختلاط الأوراق و غياب المنطلقات و صعوبة تحديد المرتكزات لواقع مضحك مبكي يسير سير الفارس المنفرد غافلا و أعمى باتجاه حفرة الضياع السحيقة.
و ليس ما يتجلى من صعوبة قيام حوار سياسي جاد يبتغي "وجه الوطن" و "هم المواطن"، اتفق نظريا على ضرورته بعيدا عن كل لأنواع الأخرى من الحوارات التي هي أكثر إلحاحا و ارتباطا ببقاء الأمة التي يهددها غياب الوعي المدني و صيانة البلد الذي يفترسه التخلف، إلا دليلا على أن نفسيات المحاورين اعترفوا دون كبريائهم أو أنكروا، هي من يقف حاجزا أمام نجاحه. و هي كذلك النفسيات التي كان يجب بالأحرى تحديد ماهيتها و محاربة سلبياتها الطاغية على إرادة أصحابها حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود و يتراءى لهم في الأفق المشترك قبس من نور الهداية يضيء دروب النجاة و المعايشة و الإمساك عن خرق السفينة التي تمخر عباب بحر هائج و متلاطم الأمواج للوصول بثقة إلى بر الأمان.
و لأن هذا الحوار السياسي المتعثر يدار على خلفية البحث عن السلطة غاية و نهاية، فإنه لا توجهه في واقع الأمر المشاعر الغامرة التي ما كان لها إلا أن تحدو المشاركين في اتجاه ملامسة قضايا الوطن الكبرى و هموم الأمة البالغة بقدر ما أن هذه المشاعر لا تعدو على النقيض سوى سباحة المسافات الطويلة بالذات المتضخمة و تحليقا في أعالي النرجسية و إمعانا في تقدير اعتباراتها الخارجة على قواعد بناء الوطن و السعي لتحقيق العدالة و نشرها بين أفراده.