ذكرياتي في محظرة الشيخ عدود / د.الشيخ ولد الزين ولد الامام

لم تربطني علاقة شخصية بشيخنا العلامة محمد سالم ولد عدود رحمة الله عليه . كنت حينها رقما من أعداد مئات الطلبة الذي توافدوا عليه في أواخر التسعينات ..
يعود عهدي بذلك في مايو 1998 عندما توفي والدي رحمة الله عليه فجأة قبل أن اعد نفسي إعدادا لمتابعة الارث العلمي وخلافته فيما كان قد قضي حياته في خدمته. لقد كان والدي 

رحمة الله عليه قبلة للعلم ومحطة لطلابه في مدينة العيون وكنت قد درست عليه العديد من الفنون غير أنني كنت أمني نفسي أن يطول به العمر حتي أجد من الوقت ما أتفرغ فيه لاستكمال مخزونه العلمي فقها ولغة وأدبا سأعود فيما بعد لسرد بعض ذكرياتي عن ذلك الزمن عن الوالد وعن الام التي أنجبت وعن الام الثانية التي ربت ورعت بعد ذلك رحمة
الله علي الجميع. سأحكي تلك الذكريات التي ستظل محفورة في الذاكرة عن زمن الصبا ومرابع الأحبة.
كان والدي قد أعدني ذهنيا لمهمة عرفتها منه غير أن تكاليف الحياة وانشغالات الوظيفة جعلت إحساسي بها يخفت ويذبل تحت وطأة الظروف والامكنة علمت فجأة بوفاة الوالد حينها أنا رجل في الثلاثينيات في تلك الفترة أمتلك منزلا يرتاده العامة والخاصة ولي أسرة وابناء صغار الدار نفس الدار التي أسكنها اليوم كان والدي قد نزل بها فترة عندما كان في زيارة خاصة الي انواكشوط..
أهل انواكشوط بطبيعتهم رحل لا يقيمون في دار إلا ليرتحلوا عنها بعد برهة كان ذلك من خاصية الوزراء والمسؤولين الكبار لكنه أصبح سمة غالبة بفعل عمليات الترحيل والبيع والسمرة وتغير سوق العقار يقال ان ذلك بسبب الجن الذين هم حلفاء لقبيلة أهل بوحبين الذين سكنوا هذه الأرض واستوطنوا فيها منذ أزمان وقد حكم لهم النابغة الغلاوي بصحة الملك
واعلم بان الارض ارض تندغا فمن اراد غصبهم فقد بغي
لم تعد الدار كحالها في ذلك الزمن لقد أصبحت من طابقين بعد أن تغيرت الظروف
الهواجس متعددة ألم ينته عهد الدراسة بعد بلوغ الاشد والعيال
هل يمكن تدارك ما فرطت فيه
غير انني عزمت علي استكمال المشوار
لا بد من مراجعة جدية لمختصر خليل الذي كنت درسته علي والدي وبالخصوص
أبواب القضاء والتركة
من لا يحسن التركة وأبواب النكاح والبيع لا يمكن عده من الفقهاء
كان والدي عالما فرضيا له تاليف يسمي موجز الفرائض
كانت محظرة أهل عدود حينها قبلة الطلاب فالعلامة محمد سالم تقاعد قبل سنوات وتفرغ للتدريس والاقراء
قررت الرحيل اذن نحو محظرة أهل عدود
أم القري قرية صغيرة تبعد حوالي 12 كلم شمال شرق مدينة واد الناقة
يقال إن الأرض استقطعها المستعمر للعلامة محمد عال ولد عدود
ليسكن فيها قومه وكان حينها أستاذا في معهد ابي تلميت الذي كان يديره
عبد الله ولد الشيخ سيديا
لا تحيلك الصورة الخارجية علي ما بداخل القرية
دور بسيطة وأكواخ وأخصاص
لكن تلك البساطة تحمل في ثناياها النبل والقيم والمكارم الي أبعد الحدود
كنت حينها مدللا فأمي مام أصبحت ضعيفة و لا تريد أن أغيب عنها طرفة عين تبيت ليلها ساهرة حتي أعود من اجتماع هنا أو هناك
أحسست بحزن شديد وفراغ كبير بعد وفاتها بعد ذلك رحمها الله وتقبلها في المتقين
الحل اذن هو ان نرحل بالاسرة نحو مدينة واد الناقة ومنها يمكنني الذهاب علي
الاقدام تارة نحو أم القري قرية أهل عدود
شجعتني علي ذلك أختي أما أخي الناج فلا يعصي لي أمرا وشجعني ابن عمنا
محمد الامين ولد المختار رحمة الله عليه الذي كان رمز الحب والوفاء للوالد
لقد كان ابنه و تلميذه ورفيقه وأمين سره وكان صهره بعد ذلك
لقد تحدث مع الوالد مرة وفهم منه منزلتي عنده وفراسته بشأن مستقبلي
وحدثني محمد الامين رحمة الله عليه بذلك
كان محمد الامين رائدا في الدرك الوطني أي كومانداه وكان حافظا لكتاب الله لغويا نحويا فقيها ورعا وكان عابدا يقوم الليل تقبله الله في الصالحين
من شدة ورعه وابتعاده عن التلوث بالمال العام حصلت له مشاكل عديدة مع القيادات العسكرية
توفي رحمه الله في ابريل من العام2003
لي معه ذكريات ساكتبها فيما بعد بحول الله
لم أكن أمتلك حينها سيارة وكانت سيارة محمد الامين تابعة للدرك وصغيرة الحجم وكان عند محمد الامين زميل من الدرك من بصاديي القبلة يملك سيارة فاعارها من أجل أن نرحل فيها و كنت قد طلبت من قائد فرقة الدرك في واد النافة وهو
ابن عمنا الحاج ولد عبد ولد الجيد ان يؤجر لنا دارا بجانبه
رحلنا من انواكشوط متجهين الي واد الناقة
الرحلة عادية في مظهرها أسرة من أهل الشرق تعود أدراجها عبر طريق الأمل
غير أن الأمر ليس كذلك
لم يعد يحس أهل الشرق بأية غربة وهم في انواكشوط
لقد أصبح بالنسبة لهم مثل العيون والطينطان وكيفة وجيكن والنعمة وعدل بكرو
غير أن واد الناقة والمذرذة و بالغربان ومعط مولان والنباغية شبيهة في البعد ثقافة وإحساسا بفاس ومكناس وبلاد العرب والشام في الأزمان والمكان بالنسبة
لهؤلاء
آه لمغترب بالغرب ليس له جنس وان كان محفوفا بأجناس
إحساسي هذا سينمحي بعد ذلك والي الأبد بعد أن صحبت وتتلمذت علي شيخنا
العلامة حمدا ولد التاه حفظه الله وذكرياتي معه سأٍحكيها فيما بعد بحول الله
لم يكن معتادا أن تنزل أسرة من أحد أحياء قبائل الحوض بتلك المنطقة إلا أسرة
موظف مكره لا مختار في أغلب الأحيان
طبعا منذ فترة بدأ طلاب العلم يفدون علي محاظر القبلة بعد أن طارت في الأفاق
سمعة محاظر شهيرة كمحظرة أهل عدود
ومحظرة النباغية وغيرها
لقد شاع في الناس أن أسرة من الحوض نزلت بالمدينة وان والد هذه الأسرة ذاهب للدراسة علي أهل عدود
كان ذلك كافيا لاستقبالنا بحفاوة بالغة من طرف الجميع. و في المحظرة حظيت بعناية خاصة من طرف شيخنا العلامة محمد سالم ولد عدود طبعا لم يتم التعبير عن ذلك نطقا ومع ذلك كنت الوحيد الذي يدرس في
أيام العطل والاعياد و كنت أدرس أول النهار الفقه وأدرس آخر النهار لامية الافعال
كان ذلك موقفا خاصا منه تجاهي رحمة الله عليه، كانت طريقة التدريس هي نفس الطريقة التي نعرفها من قبل غير أنني استغربت شدة حفظه بالرغم من بلوغه سنا تضعف معها الذاكرة في أغلب الأحيان
طبعا من العلماء المعاصرين من يمتلك تلك الخاصية فقوة الذاكرة زمن الشباب منحة بلا شك غير أنه كلما تقدم العمر تصبح تحديا حقيقيا لم اكن حينها أسن الطلبة بل كان في المحظرة منهم أكبر مني سنا ولكنهم كانوا قلة وكانوا في أغلبهم من الذين أنهوا مشوارهم العلمي ولكن من لم يمر علي محمد سالم ولد عدود في تلك الفترة لم يستكمل مشواره العلمي
من فاته الحسن البصري يصحبه فليصحب الحسن اليوسي يكفيه
كانت هيبة الرجل بادية للجميع في تواضع عجيب
يصدق فيه ما قال ابن الخياط في مالك رضي الله عنه
يأبي الجواب فما يراجع هيبة والسائلون نواكس الاذقان
نور الوقار وعز سلطان التقي فهو المهيب وليس ذا سلطان
في تلك الفترة كان برنامج الشيخ عدود يبدأ باكرا فبعد صلاة الصبح بقليل يجلس
للاقراء والتدريس وتبدأ وفود الطلبة تتري الواحد تلو الآخر ويستمر ذلك حتي قبيل صلاة الظهر بقليل
لا أتذكر انه كان يلزم الطلبة بمنهجية وترتيب
لم يكن الأمر كذلك فيما أذكر
كان طلاب اللغة والنحو أغلبية وكانوا في معظمهم شباب وإن كان من بينهم الشيخ الفقيه المقرئ يحيي ولد سيد أحمد التنواجيوي شيخ محظرة بوخزام بالحوض
الشرقي حاليا وقد طال عهدي به وقد التقينا قبل سنوات عندما كان أحد المشرفين علي طباعة وكتابة المصحف الشريف الموريتاني
وكان منهم ابن عمنا محمد ولد عبدات الذي سماه الطلبة الامير وهو الان شيخ
محظرة القران الكريم في أم القري وكان منهم الشيخ ولد معي الذي يعمل الان مديرا مساعدا للوكالة الموريتانية للانباء
كان هناك أجانب كثيرون يعطيهم الشيخ عناية كبيرة لغربتهم وبعدهم عن الاهلين
والولدان
جاءه مرة ونحن جلوس ضحوة بعض أبناء العلامة يحظيه ولد عبد الودود فقام تحية
لهم
فقالوا ما كان لك أن تقوم من مجلسك فأجابهم لم أقم لكم إنما قمت إجلالا وتكريما
لشيخننا يحظيه ولد عبد الودود
كان الشيخ نسابة مؤرخا اول ما تاتيه يحدثك عن أيام قومك ومآثرهم فتحس بعدم
الغربة وانك بين قومك
كان الشيخ عدود في إقرائه وتدريسه يضرب الامثال من أجل التوضيح أتذكر
قوله وهو يشرح لي قولة خليل في التركة (وَإِنْ أَخَذَ أَحَدُهُمْ عَرْضًا فَأَخَذَهُ بِسَهْمِهِ
وَأَرَدْت مَعْرِفَةَ قِيمَتِهِ ، فَاجْعَلْ الْمَسْأَلَةَ سِهَامَ غَيْرِ الْآخِذِ ثُمَّ اجْعَلْ لِسِهَامِهِ مِنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ ، فَإِنْ زَادَ خَمْسَةً لِيَأْخُذَ فَزِدْهَا عَلَى الْعِشْرِينَ ، ثُمَّ اقْسِمْ )4
قال ان جاءك جماعة فاخذ أحدهم حمارا أو جملا فاحسب قيمة المأخوذ ثم أقسم
والتمثيل حقيقي لان اغلب منطقة الحوض أصحاب ماشية لا أصحاب
ارضين أو عقار
كنت مرة واقفا للبحث عن سيارة تقلني الي المحظرة وكان الوقوف بجانب وقفة
الدرك هو الطريقة المثلي للحصول علي سيارة ولعل الأمر ما يزال كذلك
التقيت صدفة بأحد أبناء حمديت وأظنه اسمه ديت و كنت اعرفه بالوجه فقط
فتحدتث معه عن وجهتي فقال لي أن تذهب الي مكان الكرم في هذه المنطقة
ولقد صدق قوله فأهل أم القري جميعا , وأهل عدود بالخصوص يجلون طلبة العلم ويحتفون بهم
انهم الاشعريون يتقاسمون عيشهم آمنهم الله أن يرملوا أو تقل عيشتهم
كان شيخنا محمد سالم مالكيا يري عدم المذهبية جهلا بالدين وأصوله
أتذكر انه قال مرة عجبا لقد أصبح مالك يتهم في إتباع السنة
ومن مظاهر مالكيته عنايته بكتب مذهب مالك حيث الف كتابه التسهيل والتكميل
نظم مختصر الشيخ خليل
وعدد ابياته 17681 بيتا يقول في مقدمته
وبعد فالعبد الفقير نظما نظما بفقه مالك يجلو الظما
رام به نعش ذماء المختصر مما خليل قد وعي في المختصر
إذ أصبحت أبوابه المشهورة بعد رحيل أهلها مهجورة
لا يعتني بطرقها غير حفي يرصها فوق رفوف متحف
إلي أن يقول
فخذه نظما شاملا في المذهب يضم قاسميه للاشهبي
وسمه بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل
قضيت هناك أشهرا كان الأثر الكبير في مستقبلي العلمي راجعت فيها الكثير
واستفدت الكثير
لم تتح لي الأيام لقاء شيخنا عن قرب بعد ذلك غير لقيا واحدة كانت بغير ميعاد وما أطيب لقيا الأحبة بغير ميعاد ؟
عندما كنت في رحلة متجهة الي الدار البيضاء حيث كنت حينها أتابع الدراسة في
مرحلة الدكتوراه سلمت عليه وكان معه ابنه حمد حفظه الله فما اطيب ذلك اللقاء
طلبت منه الدعاء وودعته وأتحفت حمد بما كان معي والهدايا علي قدر مهديها
علمت بوفاته وانا بفاس وتذكرت حينها مرثية شيخنا العلامة حمدا ولد التاه
حفظه الله في شيخه محمد عال ولد محنض ولد محمد فال حين يقول
ستبكي المشكلات بكل ناد ويبكي النص احمر في المداد
ويبكي الكحل والفرس المجلي وتنتحب الحلاوة في سواد
وتبكي النون رافعة يديها لأسرار ذهبن من البلاد
وتنتحب المطالب وهي سبع وينقلب اللزوم الي عناد
وتهتك حرمة المشهور جهرا وتنتشر الجهالة في العباد
لفقد الشيخ قدوتنا جميعا اذا ما السائلون اتوا بدادي
رحم الله العلامة محمد سالم ولد عدود عدود وأمد أبناء عدود جميعا وأعانهم علي إتباع سلفهم فنعم ذاك السلف .


انواكشوط 24 ابريل 2014

26. أبريل 2014 - 8:39

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا