بالتزامن مع الذكرى الأولـى لإصـدار وثيقة الحقوق السياسية، الاقتصادية والإجتماعيـة للحراطيـن، سيتجمع الآلاف من الموريتانيين الحالمين بالحصول على كامل حقهم في المساواة ضمـن مسيـرة "الحقوق"،..لكـن الأمـل الكبير لدى المنظميـن يكمن في المساهمة في إحداث التغيير نحو الأفضل،
وفـي إقناع أولئـك الــذين يفضلون العيش في الظل بالخروج إلى نور الشمس الحارقـة !، تماما كما هـو شعــور المواطـن العادي بأن المسيـرة من شأنها أن تشكل الخطـ الفاصـل بيـن التفكير الاجتماعي العتيـق وقيم المجتمعات ما بعد الحداثيـة، وقـد يرفــع المهمشون في المجتمعات المحلية، وما أكثرهم شعار "المســاواة الآن"!.
إذا كان الموريتانيون بعامتهم، ينتظرون من المسيـرة أن تمهـد الطريق لإجراء تحـول جــذري فـي القانون والحياة الموريتانيـة، فإن المنظمين بدورهم يعدونها إحدى اللحظات النادرة التي ستغيــر الدولة من العمــق، ...
فهـل سيتحقـق هـذا الحلم في التاسع والعشرين من أبريل الجاري، ويتكاتف البيظاني والسوادني، وأن تردد المكونتان إلى جانب "لكـور" أغنية "We Shall Overcome" أي لقـد حان الوقت "لننتصر"؟ ..أجل هـل تقدر مسيـرة 29/04 أن تعكس هذا الأمــل؟؟!.
"لمرابط" وليـد المجتمع الريفي بمنطقـة آفطــوط، لذلك يحتفظ ببعض ملامـح النظام الطبقي الإقطـاعي، تماما كالذي عرفتـه أوروبا الوسطـى قبل ظهـور التجمعات الحضرية والمدن الحديثة، وهــو يصـر علـى إستهـجان مطالب الغالبية العظمى من السكان المنحدرين من الريف ناحيـة إنهاء التراتبية الإجتماعية والقبليـة المضـرة، كما يحتــفظ بنفس الصورة التي خلفتها أجسـاد الفلاحين الهزيلة وهــي تغادر فجأة الأرض لتبقـى يبابا، سرمـدا كأن لم تغن بالأمـس، ولكـن الآيـة لم تفصل للرجــل جيدا، ولـم يتفطـن أحـد ما إلى الإنذار الذي أطلقتـه تلك الأجساد الضامرة، والتـي يركب قطار مسيرتها الفقـر وانسداد الأفــق،.. حقا إن "الجـوع كافـر"، وحتـى أكون أمينا مـع التاريـخ الموريتاني الحديث فإنــه يتوجب عليً الإقرار بأن الهروب الأكبـر للعبيـد من الريف والبادية إلــى "كبات" أنواكشوط، هـو أول مسيـرة يقودها المهمشون، أطفالا ونساء ورجالا قبــل أن تلتحق بقطار الرفـض هذا أحفاد هؤلاء الذيـن يجدون الوضعية تشعرهم بالسخط الماحق، ضـد التهميش والعبودية والتمييز، وهــي عوامــل تحتم تسيير "ربيــع حرطاني" بحكمة ورويـة حتـى لا يكون "ربيعا عربيا" يحـرق كل جسور التعايش دون أن ينتج وطنا بديلا!!.
بعـد أقل من عقـد من الزمن، خاض "لمرابط" معـركته "المقدسـة" حيـن حاول ثنــي مـن كان آباؤهم يديــنون لـه بــ"الولاء" بالعـودة إلى إقطاع لـم يتخلى عنه أصحابه إلى عندما أصبح كل "ثوب يستغيث من صاحبه"، ولأن الضحـايا يرتكزون الآن علـى "ميثاق للحقوق" يرسـم ملامـح مستقبل أكثر إشراقا، وفـي هـذه الحالة، فقـد باءت الغزوة "المقدسة" بالفشـل بعــدما وجـد المسكيـن "لمرابطـ" أن السكين قـد بلغ العظـم، ولـم يعد أمام الضحايا ســوى الرفض لمشيـئته وإرادتـه.
عـانـى "ميصارة" بدوره منـذ الصغر من إرث الـرق، كما أحاط الإجحاف اللونـي على باقـي محطات مسيـرته الحياتية الأخـرى، لكنـه يعتقد بأن المشاركة الفاعلـة إلـى جانب الآخرين في المسيـرة سيضمن له الحؤول بيـن طفليه اللذين يدرسان الإبتدائية و ماضيـه وما يحويـه من ألوان سوء المعـاملة، وكأنه يردد مقولة "إبراهام لنكولن" (إنني أسير ببطء، لكنني لا أسير للخلف أبداً..).
تعترف "السالمة" الناشـطة في حـراك الـ25 فبراير، بأهمية الحـراك الذي يضطلع به دعاة الحقوق المدنيـة في موريتانيا، وهـي تأمـل أن تكون "مسيرة إسترداد الحقوق لأصحابها، الضامـن الوحيـد لقيام دولة الحـق والمواطنة"!، وبوضـوح تتساءل الفتاة عن ماهيـة أدوات الدولة إن لـم تكن الملاذ للقادمين من القاع المجتمعي؟.
بالرغـم من الجوانب الإيجابية في التحولات السياسية، والاقتصادية والطبقية الاجتماعية التي عرفتها موريتانيا منـذ ما يناهـز الستة عقود الفارطة (1958-2014)، فإنه وبغـض النظر عـن التأسيس للدولة إلى أنه وعلى مدار الحقب جرى وبشكل تدريجي إفراغها من القيـم المدنية والديمقراطية الجمهورية وما تتضمنه من مساواة وعدل، بل إنه وبصورة تدريجيـة حـلت القيـم القبليـة والشوفينية محل الوعاء الجامـع للمجتمعات المحلية، كما تفشت معايير التقييم الطبقي شرعة ومنهاجا للمواقع الاجتماعية، لقد أسفر هـذا الوضـع عـن قيام جمهوريـة عـوراء النظرة ناحيـة التباينات الاجتماعيـة وعرجاء في سيــاق إرساء المساواة ودولة القانون والمواطنة..
وهكـذا ينقلب الوضـع ويختل الميـزان الإجتماعي بقوة السلطة التي يستمدها الماسكون بزمام السلطة والذيـن سيطروا على مـواقع القيادة والنفـوذ ومفاصـل مؤسسات القيـم العتيقة، والنتيجـة أن الدولة التي كانت تقدر على عـزل وتجـريد موظفيها الساميــن مـن المهام الـرسمية الموكلة إليهم لمجرد الإشتباه في حضور الولائم القبلية، (ندوة آوليكات بداية السبعينيات من القرن الماضي مثالا)، ..اليـوم أصبح هـذا الفعـل المنافـي للقيم المدنيـة معيارا وبديلا عن الكفاءة العلمية والأخلاقية والمهنية للمتقدمين للمهام الحكومية والإدارية والعسكرية وحتى الثقافية والإعلاميـة، وهـذا ما يقلق المواطن "ميصارة" علـى مستقبل ولديـه المنحدرين من أسـرة حراطينية، عصامية، حيث بات يشعـر بأن الغـد ينسـد تدريجيا أمام اندماج إجتماعي بالمحصلة ! .
التفكيـر في مستقبل موريتانيا، والرغبـة في التوحد والإندماج في الوعاء الأوسع : الوطـن الواحد، يتناقض طرديا مـع تلك الممارسات والأعراف شبـه المؤكدة لنهج الماسكين الآن بزمام السلطة..
أما التفكيــر بمصير هذا الوطن البائس فينشغل به المساهميـن في إعـداد وتعميم "الميثــاق"، وهــي الوثيقة التي تشخص وتقترح كيف يمكن لـ"لمرابطـ" و"ميصارة و"السالمة" الشروع فورا فـي بناء دولة الحــق.
وردم المخيلة التي تخزن لأصحابها ما مروا بـه من ألوان التمييــز علـى أساس المنشأ واللون والأصــل، عبر توفيـر سلسلة من البدائل التي وصلت في مجملها إلى 33 مقترحا عمليا لإحــقاق المأمول من موريتانيا المتصالحة مع ذاتها.
إن السؤال الوجيـه الآن، هو ما فائـدة دولـة لا تريـد الإنصات بحكمة وروية، وفي الوقت المناسب لآهات الحالميــن بغـد مشـرق لكنه يضمن الكرامة للجميع.
وكأن لا أحد يهضم مقولة ابن تيمية حول وضعيـة مشابهة" إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة"،... بالنسبة لـ"ميصارة" فالدولـة العادلـة هي التي تفـرض قيم المواطنة والقانون، والتي ستؤمن لطفليه الإحساس الدائم بالمساواة مع أنـدادهم والتكافـؤ في الفرص إثر حصولهما على الشهادة، وهـي التي تتيـح لهما أن يقتسما مع غيرهم الموارد العامة للبلاد.
في المحصلة، يجنح "لمرابـط" إلـى تكريس مهاراته وقدراته ومداركه بوصفـه عضوا فاعلا فـي حيزه الاجتماعي للعمل علـى إجهاض "مسيرة" باتت تثير في نفسه القلق من أن يتبوأ الخدم السابقون مركزا متقدما في الهرم الاجتماعي المغلـوب، إنــه وسيلة مفضلة تركبها الدولة العرجاء، و لربما تكون المشيئة الربانية عملا مهما في إفشال مساعي رجل بات أعور ولا يرى غير نفسه التي يتحسس بغصة بثور شبابها الضائع.
ومن ناحية أخـرى، يجد المنظمون أنفسهم، فجأة أمام اللحظـة التاريخية التـي من شأنها إذا ما سارت قدما أن تسفر عن ميلاد دولة الحقوق والمواطنة، وان تقطع دابـر الحقـد بين الأسـر والكراهية بين المكونات، وأن تدق الناقوس بعد تفشـى العنصرية والعبودية والتمييز داخل المجتمع الموريتاني، إن هـؤلاء يجدون أنفسهم مجبرين على الحديث عن سلمية المساعـي المبذولة في سبيل تنظيم أول مسيـرة جماهيرية للذود عن الكرامة، كما يحاجج هؤلاء بالطابع التشاركــي للمشاركين فيها، إنهـم يعارضون بـشدة أولئك الضحايا من الأسياد الذين ما يزال لسان حالهم يقول بأن الدولـة مجرد كائن هلامي، "يتوجب أخذ خيره دون أن يتخـذ منـه وطنا" فالسائرون في المسيرة هـم من يسكـن الشعور الوطني في ثناياهم ومفاصلهم وهم الساعون إلى فـرض قيـم المواطنة، والمبشرون بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
بشكل موجز فالمسيـرة، سترسم الحدود الفاصلة ما بين تلك الحلقات والدوائر المفرغة التي رسمت مسبقا للأفراد والجماعات لكـي تظل تدور بها، ولتسمح بالولوج إلى الحلقات أو الدوائر الفاعلة التي من شأنها أن تسمح للناس بالعمـل سويا من أجل بناء موريتانيا متصالحة مع ذاتها.