خلق الله الإنسان وركب فيه من دواعي الألفة والرحمة والعطف ما لم يركب في غيره من مخلوقاته، ولكن الإنسان بطبيعته يطغى فيظلم أخوته في البشرية، ويبني له الشيطان من الأوهام ما يبني ، فينسى منشأه ومعاده، ويكون الإنسان مصدر شقاء لأخيه الإنسان.
... تعتبر نظرية العقد الاجتماعي من أشهر النظريات
التي توصل إليها الفكر البشري تفسيرا للعلاقة القائمة بين أفراد المجتمع، ومدار هذه النظرية على أن الناس كانوا يعيشون في معيشة قائمة على النزاعات والحروب مما دعاهم إلى التفكير في إنشاء تنظيمات اجتماعية تنظم علاقاتهم من أجل الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الأخطار الخارجية والداخلية، ويتم هذا من خلال تنازل كل فرد عن قسم من أنانيته الفردية لكي يلتزم أمام الآخرين ببعض الواجبات من أجل تكوين تنظيم يساعدهم على البقاء.
ومن أشهر أصحاب فكرة العقد الاجتماعي " توماس هوبز" (القرن السادس عشر الميلادي) ، ويرى هوبز أن الإنسان عاش حياة فوضى أو حياة فطرية حسب تعبيره مما جعله يفكر في صيغة يمكن له خلالها العيش بأمان، والإنسان في نظره يعتبر قوة غاشمة ، و"جون لوك "(1632- 1704م) الذي يرى أن الإنسان يولد على فطرة غير عدوانية ولكن التربية هي التي تغرس فيه بعض العدوانية على الآخر. و "جان جاك روسو" (1712-1778م) وهو يرى أن الإنسان لا هو بالطيب، ولا هو بالشرير، وأنه لم تكن تربطه بأبناء جنسه أي علاقة في البداية
إن الناظر في الآراء الفلسفية التي تحدثت عن النظريات الاجتماعية وتطور الإنسان يجد أن القصور واضح على محياها، بل قد يجدها في بعض الأحيان تكرس للكثير من أسباب العقد الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات؛ فقلما تجد منها ما يشير إلى مبدأ المؤاخاة الاجتماعية، ونظرا لذلك فسأقتصر على النظرة الإسلامية لإيماني لأنها الأكمل والأكثر ترسيخا لمبدأ المؤاخاة، والأنجح في حل العقد الاجتماعية.
الإسلام والمؤاخاة
قرر القرآن قاعدة خالدة تحكم بأن جميع المسلمين المكويين للمجتمع الإسلامي أخوة فقال الله تعالى:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { ، وهذه الأخوة يترتب عليها الكثير من الأحكام " فالحب والسلام، والتعاون هو الأصل في الجماعة المسلمة" .
وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد هذه الأخوة فبين الأحكام المترتبة عليها فقال: " المسلم أخوا المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وقال : " والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" ، بل إنه صلى الله عليه وسلم جعل المسلمين في أخوتهم جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهم والحمى، ونشهد من فعله صلى الله عليه وسلم دليلا عمليا على تطبيق في تطبيق هذه المؤاخاة، فلما بدأ صلى الله عليه وسلم في تأسيس الدولة الإسلامية بالمدنية المنورة أراد أن تذوب العصبيات الجاهلية و" أن تسقط فوارق النسب واللون والوطن؛ فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته، وتقواه ، فجعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأخوة عقدا نافذا، لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.."
جاءت مؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين الصحابة ، وكان ممن آخى بينهم بلال، وأبو رويحة الخثعمي: فلما كان عهد عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ودون الدواوين قال لبلال: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ فقال بلال ـ رضي الله عنه: "مع أبي رويحة لا أفارقه أبدا للأخوة التي كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقد بينه وبيني"
وقد روى البخاري ـ رحمه الله ـ صورة من صور الإخاء بين التي عقد النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أثرت على النفوس، فقد آخى بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع ؛ فقال سعد لعبد الرحمن : " إني لأكثر الأنصار مالا، فأقْسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها..." يظهر من خلال هاتين الواقعتين المدى الذي وصلته إليه المؤاخاة في نفوس المجتمع النبوي، وقد جاءت المعاهدة التي عقد النبي صلى الله عليه وسلم في ستة عشرة مادة ، وقد استطاع الإسلام بهذه المؤاخاة التغلب على الكثير من العقد الاجتماعية التي عانت منها الكثير من المجتمعات.
أثر المؤاخاة في حل عقدة الطبقية والتمييز الاجتماعي
إن المؤاخاة التي أرسى الإسلام دعائمها تجعل البشر كل البشر أخوة متساوين، وقد انتهج الأسلوب القرآني طريقة للتذكير بهذه الأخوة؛ وهي التذكير بأصل الخليقة وأن الناس جاءوا من مصدر واحد } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ { ، } وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ { ، وقبل ذلك بالأصل الترابي : }وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ{ ..
.. فالنفس الواحدة هي الأصل " ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار فإذا أجناس وألوان، ولغات ، وإذا شعوب وقبائل، وإذا النماذج التي لا تحصى والأنماط التي ما تزال تتنوع مادامت الحياة" ، ولكن الجميع أخوة من أصل واحد.
ويقرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه المؤاخاة تقريرا لا يدع لمرتاب قولا " كلكم لآدم وآدم من تراب"، " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"
أجزم أنه لا يوجد نظام فكري بشري، ولا دين سماوي ولا وضعي عرض أصل البشرية، ومبدأ تكوينها وحقيقة تمايزها كما عرضه الإسلام: وضوحا وجمالا، وقربا من الفطرة البشرية السليمة.
ومتى أحس أفراد المجتمع بهذا الأصل المشترك وجدوا أن لا سبب للتنافر بين فئاته على نوع الخِلقة ما داموا إخوة في الأصل ، وقد جاء تحديد الإسلام لمعيار التفاضل بين البشر (الإخوة) معيارا يعزز تلك المؤاخاة الاجتماعية؛ فجاء بعد الإلهي } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ فقبل أن يذكر الله معيار التفاضل ذكّر بأخوة الناس } إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى { " فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ سواء" وإنما التفاضل بأمر يطيقه الكل وهو: التقوى والقرب من منهج الله.
ويفصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا المعيار فيقول: " المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى" إذاً لا تمييز ولا طبقية في الإسلام فالمجتمع كل المجتمع إخوة متساوون كأسنان المشط.
ومع التمايز الذي تفرضه مصالح الناس فقد نظر الإسلام إلي ذلك الاختلاف نظرا لا يخرج عن الإطار العام الذي رسمه "فإذا تأسس التفاوت والتمايز الاجتماعي والاقتصادي علي ما هو مشروع من أسباب، وإذا أحدث هذا تفاوت تمايز الأمة إلي طبقات اجتماعية متميزة فإن الإسلام لا يرى في وجود الطبقات إخلالا بالأمة , ولكنه كما أقام علاقات الترابط بين الفردي وبين الأمة كذلك يهذب من حدود التمايز والتفاوت الطبقي ويضبط جموحه ويرسم آفاقه علي النحوي الذي يجعل علاقات الطبقات الاجتماعية في لحظة التوازن ودرجته ومستواه" لأن أساس هذا التوازن مبني على المؤاخاة بين مختلف الطبقات.
إن جميع آفات المجتمعات البشرية التي عانت من العصبيات والعنصريات البغيضة ترجع إلى نسيان البشر لأصل هذه المؤاخاة، أو عدم وجودها في تلك الثقافات أصلا، مما جعلها تُضيق نطاق الأخوة في أبناء الجنس الواحد، أو القبيلة، أو اللون؛ فأصبحنا نجد أن جنسا من البشر يدعي أنه هو الشعب المختار، وأن غيره من الأمم رعاء لا قيمة لهم ، وشهدنا طبقات من الناس تستعبد على أرضها وتعمل فيها من أجل طبقة أخرى أرقى ، وآخرون يبادون ويحرمون من حقوق الإنسانية لأن لون بشرتهم يخالف لون بشرة الطبقة السائدة النافذة
أثر المؤاخاة في حل عقدة الفقر
إنها مسألة متجاوزة ؛ فحين يقر المجتمع بأخوة بعضه لبعض، فيحس الغني بأن الفقير أخ له سيساهم ذلك في أن يأخذ كل طريق يمكن أن ترفع عن أخيه فقره وحاجته..
وكذلك حين يعلم الفقير أن الغني له أخ يلجأ إليه وقت حاجته، فيزول من قلبه كل حقد تجاهه.
وهنا نجد أن مبدأ المؤاخاة الإسلامية يركز على هذه النقطة فالمسلمون أخوة جميعا، غنيهم أخ لفقيرهم، وفقيرهم أخ لغنيهم، لا الغني يعيش وحده لا هم له سوى أن يربي ماله ، وهنا تأتي الإشارة القرآنية : } كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ { .
ويأتي الإسلام بالأمر بالتكافل الاجتماعي تحقيقا لتلك الأخوة وتأكيدا عليها؛ فيفرض الزكاة لسد هذه الثغرة، ويشرع الإنفاق، ويحرم الاكتناز والاحتكار..
ونجد رسالة لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- تصف كيف ينظر الإسلام إلى الطبقات العاملة جميعا نظرة لا تجعل لأحد فضلا على أحد بناء على منصبه أو غناه ، فقد أرسل إلى أحد ولاته يقول له: " واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبغضها عن، فمنها: جنود الله، ومنها كتاب العامة، والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق ، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة..." ثم يقرر رضي الله عنه أن هذه الطبقات كلها لا تقوم حياة المجتمع بدونها، دون أن يكون لواحدة فضلا على الأخرى فهي جميعا في موضع خدمة المجتمع .
وقبل هذه الرسالة نجد مشهدا من مشاهد السيرة يرسم صفحة من صفحات الأخوة بين الغني والفقير، لا بل بين العبد والسيد؛ فهاهو أبو بكر الصديق يشتري بلالا بعد أن أذاقته قريش أصناف من العذاب لا تطاق، فيأتي الصديق الرجل النسيب التاجر الثري ليحرر أخاه العبد المملوك الأسير العاني ، فيبيعه له أمية بن خلف ويقول: "واللات لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها" فيرد عليه الصديق: " والله لو أبيتم أنتم إلا مائة أوقية لدفعنها" .
يظهر هذا المشهد كيف تمحي كل العقد الاجتماعية أمام أخوة الإيمان، فهي عندما تتحقق لا ينظر الأخ إلى أخيه إلا انطلاقا من الواجب الذي له عليه بمقتضى تلك الأخوة.
أثر المؤاخاة في حل العقد التي مردها إلى الجهل
جعل الإسلام من واجب الأشخاص المتعلمين تعليم غيرهم، لا أن يقف التباين المعرفي حاجزا اجتماعيا بين طبقات المجتمع، وقد رتب الإسلام الأجر الجزيل لمعلم الناس الخير ففي الحديث: " نعم الهدية كلمة حكمة تسمعها فتطوي عليها ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها تعدل عبادة سنة" والأحاديث في الباب كثيرة مشتهرة .
والتفضيل الذي أعطاه الله للعلماء على غيرهم لا يخرج عن معيار التفضيل في الإسلام (التقوى) لأن العالم أقدر على تحقيق التقوى من الجاهل لعلمه بما حرم والله فيحذره، وما أمر به فيأتيه.
وقد احترم المسلمون علماءهم وأكبروهم بغض النظر عن أصولهم: فهذا عطاء بن أبي رباح الذي كان عبدا حبشيا مملوكا تصير إليه إمامة المسلمين في العلم، فيصير في خدمته أبناء الأشراف والملوك حبا له وتكريما لعلمه وتقواه، ويقول عن سليمان بن عبد الملك لبنيه بعد أن رآه : يا بني تعلموا العلم، فبالعلم يشرف الوضيع وينبه الخامل ويعلوا الأرقاء على مراتب الملوك"
وختاما.. ستبقى العقد الاجتماعية قائمة في كل المجتمعات متى ما ابتعدت عن سنة الله التي ارتضى لعباده أن يعيشوا عليها: اخوة متساوون في الحقوق والواجبات، يخدم بعضهم بعضا، ويحب بعضهم بعضا، متآلفون لا يتظالمون، بل يتناصرون فالأخ لا يظلم أخاه بل ينصره ويسانده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- تاريخ الفلسفة الحديثة: كرم يوسف ص50 الطبعة الأولى دار المعارف القاهرة 1957
- راجع المرجع السابق ص 194
- سورة الحجرات: الآية 10
- في ظلال القرآن لسيد قطب ج 7 ص 530 طبعة دار إحياء التراث بيروت 1967م
- رواه مسلم
- رواه مسلم
- فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 138 الطبعة الثالثة لدار الشروق القاهرة 2005م
- انظر: سيرة بن هشام ج 2 ص 114 الطبعة الرابعة دار الفكر سنة 1998م ، وزاد المعاد في هدي خير العباد لأبن القيم ج 2 ص 78 الطبعة الأولى مكتبة الصفا القاهرة 2004م ، والرحيق المختوم للمباركفوري ص 167 طبعة دار الفكر بيروت 2000م
- سيرة ابن هشام: ج 2 ص 115 مصدر سابق.
- رواه البخاري/ فتح الباري لابن حجر ج 7 ص 141 الطبعة الثانية دار الكتب العلمية بيروت 1997م
- انظر المواد في الرحيق المختوم ص 169 مرجع سابق
- سورة النساء الآية: 1
- سورة الأنعام الآية: 98
- سورة الروم الآية: 20
- في ظلال القرآن : ج 3 ص 322 مرجع سابق
- رواه مسلم
- سورة الحجرات الاية 13
- تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 1760 طبعة دار الفكر بيروت سنة 2000م
- رواه الطبراني
- مجلة حراء العدد: 16 السنة الرابعة 2009م ص: 10 مقال للدكتور محمد عمارة: الفرد والطبقة
- الشعب اليهودي يدعي أنه شعب الله المختار ؛ وأن غيره من الشعوب إنما وجد لخدمته
- النظام الطبقي في أوربا الذي أنتج ما عرف بالإقطاع لطبقة النبلاء
- النظام التمييز العنصري ضد السود في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا
- سورة الحشر الآية 7
- نهج البلاغة: الإمام علي ص: 337 طبعة دار الشعب القاهر بدون تاريخ
- انظر: رجال حول الرسول: خالد محمد خالد ص56 الطبعة الأولى لدار الفكر بيروت سنة 2003م
- الطبراني، وإسناده ضعيف
- انظر النصوص الدالة على فضل العلم والتعليم في إحياء علوم الدين للغزالي ج 1 ص 16-17 الطبعة الأولى بيروت سنة 1999م
- انظر ترجمته في البداية والنهاية لابن كثير ج 9 ص 329 الطبعة الأولى دار التقوى القاهرة سنة 1999