إن مفهوم العمل يحمل مضمونا اجتماعيا وثقافيا يشير إلي دلالات تاريخية مرتبطة بصراعات طبيعية وسياسية . وهو مجهود ذهني أو عضلي يقوم به الإنسان لإخضاع الطبيعة و تلبية حاجاته الضرورية .
وقد دخل الإنسان منذ القدم في صراع مرير مع المحيط الطبيعي والضرورات القاسية ، نتج عن ذلك تفوق الجانب الفكري للعمل علي الجانب البدني ،مما ولد احتقارا متواصلا عبر الأجيال لمن يقوم بالعمل العضلي ، وجعل الناس ينقسمون إلي سيد وعبد ولكنهما يتقاسمان في الأخير العبودية :للطبيعة بالنسبة للأول ،وللإنسان بالنسبة للثاني. (جدلية العبد والسيد)وكانت الشرائع السماوية قد نبهت الإنسان إلي أن العبودية لله وحده وأن البشر متساوون في الحقوق (لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوى)ومع ذلك ظل المجتمع الموريتاني خاضعا لمفاهيم السيادة والعبودية نتيجة التقسيم الاجتماعي للعمل وانطلاقا من ذات المفاهيم القديمة والمناقضة لتعاليم نبينا محمد صلي الله عليه وسلم الذي مارس العمل اليدوي بنفسه ورغب فيه صحابته رضوان الله عليهم ..فما الذي جعل الموروث الاجتماعي الموريتاني يخالف تعاليم الإسلام ؟ وكيف نعالج مشكل العبودية والاسترقاق انطلاقا من مفاهيم العمل والثقافة الاجتماعية؟
ظل الناس في مجتمعنا القديم يحتقرون العمل العضلي ويعتبرون أنه من اختصاص العبيد، وينطلقون في ذلك من تقسيم للأدوار داخل المجتمع تجعل من يقوم بالمجهود اليدوي يصنف اجتماعيا وثقافيا ضمن فئة الأرقاء أو من يليهم في سلم التراتبية الوظيفية ..وقد أصبحت هذه الثقافة عائقا كبيرا لتحقيق التنمية بعد قيام الدولة الحديثة، ولاتزال مخلفاتها تؤثر بشكل مباشر علي خارطة العمل والإنتاج والمردودية الاقتصادية للإنسان الموريتاني ، كما أنها ترمي بظلالها علي وحدة النسيج الاجتماعي وتماسكه، وتبعث الغلق في الأوساط السياسية حول مستقبل البلاد برمته في ظل التخلف الاجتماعي والتخبط السياسي . ولم تصل معالجات السلطة القائمة إلي طرح مسألة البناء الاجتماعي والثقافي وإعادة صياغة مفاهيمه انطلاقا من إستراتجية واعية وقوية تسند إلي المعطيات الصحيحة والحقائق الواضحة ...
إن التحديات التي نواجهها اليوم هي بسبب الجهل بالتاريخ والحضارة والثقافة و من الضروري أن نعالج أوضاع العمل والعمال من منظور سوسيولوجي وتاريخي وثقافي قبل أن نتوجه إلي الظروف المادية التي هي الأكثر بروزا في كل المعالجات وحتى المطالب العمالية .
إن العدالة مطلب أخلاقي قبل أن تكون مطلبا اقتصاديا ،ويجب أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقول "إن الثقافة آثمة باعتبارها - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - وسيلة من وسائل استغلال العمل"
إن الواقع الاجتماعي الذي نعيشه وحواجزه القمعية هي أكبر التحديات التي تواجه العامل الموريتاني وتنحدر به إلي درجة الحيوانية والدونية والاحتقار الشديد في ثقافة الظلم والقهر التي يعيشها العمال ومن ورائهم ما بات يعرف "بفئة العمال بالمعني اليدوي"(لحراطين) ..
إن من الراسخ لدي الجميع أن من يبحث عن عامل يدوي يجب أن يتوجه إلي تلك الشريحة في أوكارها التي يميزها الفقر والمعاناة ، لأن أجورها لايمكن أن تصل إلي الحد الذي ينقلها من تلك الأوضاع ..ولأن الدولة لم تميز العمل التاريخي لتلك الفئة ولم تعمل علي جعل "الآخرين" يمارسونه حتى تغير المفاهيم وتوحد المجتمع ,,لكن الدولة ليست معنية بذلك ،وهي تواصل ترسيخ المشكل بدلا من معالجة جذوره .
إن رؤية الدين الإسلامي لموضوع العمل واضحة ولم يجر توظيفها اجتماعيا في سبيل محو آثار التكبر عن العمل اليدوي واحتقار العاملين في مجاله .وتلك مهمة الأئمة ،والخطباء، والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني ،والمثقفين، والمدرسين، والمربين ,وسائل الإعلام الوطنية: العامة و الخاصة .
إن الدولة الموريتانية لم تقم بتحسين أوضاع العمال اليدويين حتى "تضرب عصفورين بحجر واحد": فتحارب الفقر في أكبر معاقله، وتقضي علي التقسيم الاجتماعي المتخلف للعمل،وتخلق ثقافة جديدة قائمة علي: مردودية العمل وليس نوعيته، وهي المعالجة الصحيحة والتي من شأنها أن تعمق الحلول الاقتصادية في كل الاتجاهات وتكسبها معاني ثقافية هامة وضرورية لوحدتنا الوطنية .
إنّنا نصنع تاريخنا بأنفسنا بالاعتماد على منطلقات ديننا وقيمنا وفي ظروف محدّدة. إنّ الظّروف الاقتصادية مهمة، لكنّ المعطيات السّياسيّة، والثقافة والتّقاليد التي تسكن أذهان الناس تلعب دورا محوريا.
لقد أصبحت الأوضاع في ثقافة مجتمعنا ووعيه تبدو حبلى بالتناقضات. فالإنسان القوي الذي يمتلك القدرة على إخضاع الطبيعة وجعلها أكثر إنتاجية يعاني التحقير والإنهاك المفرط. إن شيئا ما جعل مصادرنا القوية للثروة تتحول إلى مصدر للبؤس وكأن كل انتصار عملي وتنموي ثمنه انحطاط معنوي، فبقدر ما يصبح الإنسان سيدا علي عمله مسيطرا علي الطبيعة ،بقدر ما يصبح عبدا لأمثاله. إن الإنسان ينتصب حرا أمام إنتاجه. فكيف يكون عبدا لغيره ؟