قضية الحراطين...مدخل لمستقبل آمن / المختار ولد نافع

بطرح وثيقة الحقوق المدنية للحراطين والحراك الذي ينطلق منها تكون قضية هذه الشريحة قد تبلورت في شكل جديد يتجاوز مجرد الاهتمام بجذر القضية المتمثل في الرق، وهو ما يبشر بأن هذا الجذر لم يعد هو لب المشاكل المطروحة لهذه الشريحة.

وفي المقابل تؤشر الحالة التي عكستها الوثيقة للواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجموعة  على خلل كبير في استفادة المجموعة من مزايا الدولة رغم برامجها الساعية لمعالجة آثار الظاهرة السابقة وتمكين الحراطين من القدرة على المنافسة انطلاقا من مبدء التمييز الايجابي.

وإذا كان البعض يرى أن طرح المنتمين للشرائح مطالب خاصة بهم  سعي للمحاصصة، ودعوة للتقاسم الفئوي لمنافع الدولة فإن الواقع يقول إن في هذه الرؤية –على ما فيها من وجاهة- تجاهلا لجانب آخر من الصورة، وهو أن تحقيق هذه المطالب يصب في الصالح العام من حيث أنه قضاء على معضلة بنيوية تهدد وحدة ومستقبل البلد، ثم من حيث إنه مساعدة مؤقتة لجزء من الشعب تعيقه معطيات تاريخية وظرفية عن النهوض الذاتي.

الضعيف حتى يقوى
والرؤية التي ينطلق منها هذا المقال تقول إن ضمان مستقبل عادل و آمن لهذا البلد يحفظ وحدته ويحافظ على مكانته ودوره الحضاري في منطقته مرهون بتحسين في الأوضاع الاقتصادية لهذه الشريحة عبر استثمار استراتيجي  يضعها على قدم المساواة مع بقية الشرائح ويوصل إلى وضع يمكنها من الإقلاع الذاتي بإزالة المعوقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي تعطل فاعليتها حاليا.
وتقول هذه الرؤية إن الأدوار الاستراتيجية للدولة تقتضي منها اهتماما خاصا بجزء خاص من شعبها تقول المعطيات الحاضر إنه يعيش التهميش والهامشية، وتقول مؤشرات المستقبل إنه سيكون مركز الثقل على الأقل من الناحية الديمغرافية، مما يعني إنه إن لم يهيئ للعب دور إيجابي لصالح الوطن فلن يكون أمامه إلا الاستمرار في الهامشية، وبالتالي استمرار تعطل الجزء الأكبر من الذات الوطنية –لا قدر الله-
وكما تفرض المهام الاستراتيجية على الدولة اهتماما خاصا وتخطيطا أخص لمستقبل هذه المجموعة تقتضي الأدوار الإصلاحية لرواد المشاريع السياسية والفكرية الكبرى من هؤلاء الرواد أن يقوموا بنفس الدور، والرائد لا يكذب أهله ولا يسلمهم ولا يخذلهم.

إدارة المستقبل
يقود تحليل الآراء التي تستكثر مطالب التمييز الإيجابي التي تطرحها الفئات على الدولة وتحليل الحجج التي تعتمد عليها والقائلة إن في هذا التمييز محاصصة إلى أن الخلفية العميقة التي تنطلق منها لا تعدو أمرين:
إما أن هؤلاء لا يرون في الدولة كيانا للجميع، مستقلا عن الجميع، عليه أن يحرص على مصلحة الكل حتى لو اقتضى ذلك أن يتدخل لصالح البعض تدخلا خاصا نتيجة ظروف ومعطيات خاصة...حتى لا نقول إن بعض هؤلاء يسعى لأن تظل الدولة لطائفة معينة.
الاحتمال الثاني أن القائلين بهذا الرأي لا يرون في أدوار الدولة أكثر من "تصريف الأعمال" العادية وإدارة التدخلات الحكومية الآنية؛ من انتظام عمل الأجهزة البيروقراطية وتقديم الخدمات العامة ورعاية أمن الحاضر- أكرر: أمن الحاضر!!- ويغفلون عن الأدوار الاستراتيجية المنوطة بالدولة مثل المحافظة على اللحمة الوطنية والاندماج الاجتماعي وسد منافذ الاختراق أمام الأعداء والمحافظة على الدور الحضاري للأمة وحماية الهوية الحضارية وتعزيز مقوماتها.

الادماج سبيل الاندماج
يتمنى كثير من الغيورين على الوطن –ويسعون لذلك - حصولَ اندماج وطني بين مختلف الشرائح في بوتقة المواطنة والهوية الوطنية الجامعة بمرتكزاتها التي يأتي الدين الجامع والعيش المشترك في مقدماتها، ويأسف آخرون على بوادر التمايز بين شريحتي الحراطين و"البيظان" –بالمعنى الضيق-
لكن هؤلاء يغفلون عن أن أهم دواعي هذا الاندماج هو العمل على إدماج اقتصادي واجتماعي للشرائح الأضعف في الحياة العامة على نحو يزيل الفوارق الاقتصادية الاجتماعية، والنوازع النفسية التي تعيق الاندماج الوطني، ذلك أن تركز الفقر والهشاشة الاجتماعية في شريحة معينة يحول الشرخ من مجرد تمايز شرائحي إلى تمايز شرائحي طبقي.

وبخصوص ثنائية الحراطين والبيظان يمكننا القول إن التمايز الذي بدأ يظهر منشؤه الأساسي هو أن التفاوت الاجتماعي بين الشريحتين وانغلاق الحياة المدنية قَضَيَا على كثير من الأواصر التاريخية والنفسية التي كانت تجمعهما وتجعل منهما مكونا واحدا رغم ما بينهما من تفاوت في السلم الاجتماعي

ولعل في توحد الشريحتين في السابق ضمن مكون واحد دليلا على أن التفاوت الاقتصادي أقوى في خلق التمايز الشرائحي من المكانة الاجتماعية، فالناظر بتمعن يدرك أن سبب عدم حمل جماهير الحراطين –بعد نيلهم حريتهم- لأي ضغائن تجاه أسيادهم السابقين وإصرارهم التلقائي على أواصر الصلة معهم مَرَدُّه إلى أن طبيعة الحياة البدوية التي عاشوا فيها في العصور السابقة تجعل التفاوت بين العبد والسيد غير كبير سواء في المسكن أو الملبس.

حتى لا يبقى للشيطان نصيب
كثيرا ما يتحدث المشفقون على البلد عن التحذير من المتاجرة بالقضايا الفئوية من لدن بعض المنتمين إلى الفئات التي عانت ظلما تاريخيا، وخوفوا من استغلال أعداء الأمة والوطن لرفع هذه المظالم ضد الدولة، وهذا أمر يستحق التنبه له، والعمل على إبطاله..ولكن كيف؟
الجواب: إن تجارب الأمم أثبتت أن من أنجع طرق حماية اللحمة الداخلية رفع الظلم عن المظلومين حتى لا يضطرهم الإحساس بالقهر إلى الانتقام من الذات، و إغناء المحرومين حتى لا يضطرهم الفقر لبيع أعز ما يملكون، وحل معضلة الهوية العامة بطريقة يجد كل الشعب فيها أنفسهم حتى لا يدفعهم الإحساس بعدم الانتماء للبحث عن انتماء آخر.

وبعد
فتلك أسطر أرى أن مفاتيح لصنع مستقبل آمن يحقق للوطن حل إحدى أكبر المعضلات التي واجهته منذ نشوئه، ويقدم لمكون أساسي من شعبنا الكريم إنصافا مطمئنا يعوض له ظلم الماضي الممتد تهميشا إلى الحاضر بعدالة المستقبل ومساواته.

3. مايو 2014 - 19:59

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا