ملف الاسترقاق ومخاوف الإبتزاز / عبد الفتاح ولد اعبيدن

يجمع الكل تقريبا على رفض الاسترقاق ونبذ هذه الظاهرة المقيتة، بعدما تأتي اليوم إمكانية إصدار رصاصة الرحمة على هذا الجرم الإنساني البشع عبر الحقب والأزمنة السحيقة، ولكن بعض المتحدثين باسم هذه الشريحة يحاول إثبات حقوق للضحايا على حساب الجيل الحاضر والمستقبلي،

 رغم أن القرآن صريح في هذا الباب "لا تزر وازرة وزر أخرى"
لقد أصبح المجتمع مجمعا على تحريم هذا التصرف وما ثبت وجوده من حالات الاسترقاق بالأدلة يحال للقضاء، وأما تكريس المال العام لتعويض جميع الأرقاء السابقين عبر تاريخ موريتانيا الطويل، فهذا قد يمثل ظلما صريحا للمجتمع الحالي، لأن إعطاء حقوق وامتيازات للبعض على حساب بقية الموريتانيين -الفقراء في أغلبهم ولو لم يكونوا في الأصل أرقاء سابقين- تصرف غير سليم، كما أن مثل هذا الاهتمام الفئوي بمشاكل وآثار الماضي، قد يدعو إلى فتح ملفات أخرى بصورة مشابهة، مثل ملف لمعلمين وملف ضحايا التغلب، عندما كان حملة السلاح يأخذون أحيانا أموال الناس غصبا وفي أجواء السيبة المطلقة، ولا نستغرب إن سمعنا عن مطالب أبناء شهداء حرب "شربب" خصوصا من الزوايا في ولاية اترازرة، وضحايا الطبقية وضحايا استقلال بعض الزوايا والحجابة للدين على حساب ضعفة العقول.
وربما تطالب مجموعات بحقوقها لدى الدولة إثر حرب الصحراء أو تصرفات نظام ولد الطايع ضد بعض الزنوج، وربما يطالب بعض الموريتانيين بحقوقهم، بعد تسفيرهم من السنغال، وبتحريض أحيانا من قبل بعض الزنوج الموريتانيين.
إن ملفات الماضي كثيرة وفتحها بعضها يستدعي المزيد من البحث والفتح والتمحيص، وهذا مضر بموريتانيا ووحدتها ووجودها.
والعزف المستمر على هذا الوتر لا يخلو من الابتزاز واستغلال الملفات، سواء من أجل أغراض شخصية أو فئوية، والتناغم من قبل الدولة أو الرأي العام مع هذا التوجه خطير ومضر، ودليل واضح وبين على ضعف النظام وتخلخل اللحمة الوطنية.
إننا نرفض الرق وندعو بقوة وجدية لتجاوز آثاره، عبر مناهج الدولة التعليمية والصحية والإعلامية وغيرها، التي تخدم جميع الموريتانيين دون تمييز، أما تخصيص وكالة أو جهد خاص لمكافحة آثار الاسترقاق، فهذا غير مبرر وعطاء من غير تفويض، وإلا لجاز الخوض في كل الملفات الداعية للتعويض وتضميد جميع جروح الماضي، التي اجترحها آخرون، ذهبوا إلى قبورهم، وتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
لقد أصبح طرح واستغلال معاناة الأرقاء السابقين، مصدر خطر على وجود المجتمع الموريتاني، ولقد حرض –بضم الحاء- ضحايا هذا الاسترقاق على بقية المجتمع خصوصا من البيظان الآخرين، وأصبحت هناك نقمة واضحة ونفسية عدائية مشحونة بالعبارات والنظرات غير الودية، وركز بعض زعماء هذا المذهب التحريضي جهدهم على إشعال الفتنة ونشر الوعيد ضد مجتمع البيظان، وكأننا في أجواء حرب قائمة فعلا.
وكأنهم يريدون من البيظان جميعا أن يعترفوا بجرم لم يقترفه على الأقل جيلهم الحاضر، وهم الآن يمقتونه ويسعون لمحو آثاره السلبية، عن طريق الانخراط الطبيعي في واقع ومشروعات الدولة التنموية المتاحة.
إن أجواء استغلال هذا الموضوع المشحونة بالكراهية أحيانا، دفعت بأعداد كبيرة إلى الاعتداء على الأموال والأنفس، والتمادي في هذا التوجه -دون حساب- قد يجر إلى المزيد من الانهيار الاجتماعي المقلق، مفضيا لا قدر الله إلى صراع أهلي لا تدرى عواقبه.
إن أول الحرب مجرد كلام، فهل نعي ما نقول، قبل فوات الأوان.
إن اهتمام الغربيين والصهاينة بوجه خاص بهذا الملف لا يخلو إطلاقا من استهداف موريتانيا وإسلامها واستقرارها الاجتماعي، مهما كانت النواقص والأزمات.
إن إعطاء أرض خاصة أو تمويل خاص باسم تعويض الاسترقاق السابق لا معنى له، والمجتمع -في المقابل- مفتوح لنبذل جميعا جهودنا للكسب، وأما إعطاء رقيق سابق وحرمان بيظاني أو زنجي من ثروة وطنه لأنه لم يقع عليه الرق فهذا ظلم وعمل غير مبرر، وسيخرج مستقبلا من الناس من يطالب هؤلاء برد ما أخذوا باسم الاستغلال والابتزاز.
وستبقى جل هذه الدعوات والمسيرات باسم رفع الظلم عن الأرقاء السابقين مشحونة بالعنصرية ومحاولة الحصول على خصوصيات غير عادلة، ما لم ترجع إلى السياق الطبيعي، بعيدا عن التوظيف السلبي لملف العبودية.
إن أغلب مضمون هذه الدعوات فئوي وابتزازي، فلا حق إلا ما قد يترتب على الانتماء الوطني العام، لكل موريتاني دون تمييز، أو ما رتبه القضاء بناء على شكوى من معاناة حاضرة ملموسة، وأما الالتجاء إلى الماضي السحيق لفرض حقوق مفبركة دون سبب واقعي قائم، استفادة من جو الحريات والمبادرات، فهذا كسب لا يحظى بالسند الأخلاقي والقانوني، وقد لا يستقر طويلا.
وإن الاستمرار في الضغط السلمي أو الارتقاء إلى العنف المخرب لفرض مطالب فئوية لا تستند إلى معاناة حاضرة، سيمثل تجريما مجانيا لشرائح أخرى من المجتمع، وقد يكرس لونا جديدا من الرق، سواء كان هذا التحرك عبر مسيرات سلمية أو عنفية، فهو غير منصف وغير بريء إطلاقا.
إنني لا أرى مبررا لقيام وكالة التضامن لرد الاعتبار للأرقاء السابقين، ورفع مستوياتهم، فهذا جهد وصرف غير مبرر، ما دام المجتمع والجيل الحالي ليس هو المسؤول عن ظاهرة الرق المزمنة السابقة في تاريخ هذه الأمة، وركوب مالية الدولة الحالية دون وجه حق، قد يكون مجرد سطو على المال العام، ومحاباة للبعض على حساب البعض الآخر، ومثل هذه النغمة أضعفت الدولة ووحدة المجتمع، وفتحت الباب للبعض للاحتواء ظلما وعدوانا على أموال وحقوق آخرين.
وإن احتج البعض بضعف البعض من ضحايا الاسترقاق سابقا في الميدان التعليمي أو الصحي أو غيره، فليتوجه إلى الخدمات العمومية في هذا المجال، فهي متاحة للجميع، ولا وجه لمواجهة الظلم الاجتماعي بظلم آخر، سيفتح ربما أزمات جديدة أخرى، وإن تصرف نظام ولد الطايع ضد بعض الزنوج في وقت سابق، لا يرتب حقا من المال العام لمجموعات واسعة دون تحديد من القضاء للضحايا المعنيين وبشكل مؤقت غير مفتوح.
وأما فتح دعوى مطلقة لحقوق الأرقاء السابقين فهي مصدر خطر سياسي واجتماعي على موريتانيا، وإن وجدت حالات آنية محددة بعرض حيثياتها على القضاء، فهذه حالات خاصة معدودة محصورة، لا تصل إلى بحث ملف الرق منذ كينونة مجتمع البيظان وسلبياته وإيجابياته.
واستدراج الرأي العام الموريتاني للانخراط في هذا الملف، مجرد خدعة لتوريط المجتمع برمته ونكئ جراح الماضي وتناقضاته وصراعاته، وهي كثيرة.
فقد تنتقل القضية من الساحات العامة لساحات الحسم والفصل البرلماني والقضائي، فتثبت حقوق لا مستند لها، لتترتب إلى الأبد، على ظهور أناس لم يسترقوا ولم يظلموا أحدا، ليقال لهم بلسان الحال ولسان المقال: "ادفعوا ثمن أخطاء بعض آبائكم"، فلماذا تكون موريتانيا خاصة في هذا الباب، فالاسترقاق ظاهرة كونية عالمية في العصور القديمة والحديثة لدى بعض الدول المتقدمة مثل أمريكا وأوروبا التي حملت في سفنها العبيد الأفارقة إلى القارة الأمريكية، ولم تجرم المجتمعات كلها لسببها ولم تدفع الدول المعاصرة أموالا طائلة لتعويض أخطاء وتصرفات الماضي، وإنما كانت المواطنة تحت ظل الدولة المدنية الجديدة فرصة مباشرة لحصول الجميع على حقوق متساوية، وهو ما هو متاح -على الأقل نظريا- في الجمهورية الإسلامية الموريتانية النابذة للرق والمفترض أن تكون نابذة في المقابل لاستغلاله وتوظيفه الفئوي، الظالم السالب ربما لحقوق آخرين، لم يقترفوا الرق ولم يقروه، وينظرون لضحاياها على أنهم مواطنون شرفاء، يستحقون-طبعا- كل ما يرتب لهم الدستور والقوانين المعمول بها، المستندة للشرع الإسلامي الجامع.
إن السلطة والبرلمان والإعلام وغيره من الجهات النافذة لا يجوز لها إعطاء حق لمن لا يحق له دينا وقضاء، حتى لا يكون ذلك مدخلا لخلل يصعب علاجه.
إن تكفل الدولة بضحايا استرقاق سابق غير واقع حالا أمر يفتح المجال لمطالبات حقوقية لا حصر لها ولا عد، وقد تمنح من المال العام المحدود مصاريف كبيرة لفئات محتجة على حساب بقية المجتمع، دون أن يكون هذا المجتمع الحالي له دخل في هذه التصرفات الغابرة من مشاكل لحراطين ولمعلمين والزوايا وصراعات الإمارات وغزواتها غير النظيفة أحيانا، فالأفضل وقف اليد عن نبش الماضي والتركيز على الحاضر.
فإن وقع رق محقق، فهذا مباح البحث والتعويض وجبر الكسر، أو غيره من المظالم، وإلا فإن فتح قضايا كبيرة تاريخية، لا تعنينا ولا قبل لنا بها سيؤدي بالدولة والمجتمع للمزيد من الغوص في المجهول نحو المجهول، وسيخرج من الضفة الأخرى من المجتمع من يرد السهام، عن المتهمين باستمرار والمتحامل عليهم بصراحة ووقاحة أحيانا، وهذا لا يخدم موريتانيا عربا أو عربا سمرا أو زنوجا، فالأولى التعاضد والتفاهم وبحث الممكن الطبيعي العادل المنصف، دون تحميل البعض ما لم يقترف أو يجترح.
والحقيقة أن من يسميهم المجتمع لحراطين جزء أصيل طبيعي فاعل في هذا الوطن، وحان وقت إعفاء ملفه من الاستغلال، ولقد بدؤوا في التقدم في مدارج السمو المعنوي والمادي، فلا داعي لركوب موجة معاناتهم، فقد فرضوا أنفسهم عبر السياق الطبيعي، ولنعمل فحسب على التسامح والتعلم والعمل الايجابي، وما سوى ذلك مجرد ترف ولغو وتطرف، قد لا يخدم مصالحنا جميعا وازدهار واقعنا المتردي، المحتاج بإلحاح للفعل الناجع بدل سقط الكلام والتنابز والصراع العقيم.
وسيبقى كل مواطن موريتاني مسترق سابق أو غير مسترق حقيق بأقصى درجات العناية والخدمة في كل مجال، لكن بعيدا عن يافطة الفئوية العنصرية، فالدخول في خطة الجواب على كل عريضة مطلبية من طرف شريحة بذاتها، قد يدفع المجتمع والدولة إلى دوامة قد لا تحمد عقباها البتة.
فالخلاف ليس العناية بجميع المواطنين ومن مختلف المشارب، ولكن الخلاف في نظري على التمييز في الخدمة دون مبرر أو الدعوة لإنصاف مجموعة تحت شعار مجزئ منذر بتعميق الدعاوى التقسيمية، كما سيظل الإجماع قويا حول رفض إسلامي وأخلاقي وحقوقي عميق لجميع صيغ الاسترقاق البغيض المنبوذ، دون وجه حق لاستغلال أو تحريف هذا الرفض الطبيعي، وما دامت المطالب الفئوية في إطار السلم والقانونية فهي أقل خطرا، وإن كان الأجدر بها والأنجع لها الدخول في سياق الخدمات العامة وتجاوز الماضي وعدم بناء خطة خاصة لفئة خاصة، تخفيفا من الشعور بالغبن أو علاج هذا الغبن بغبن آخر أو مشروع "إنصاف" يكتنف الانتقام ممن لم يذنب أصلا ويكرس الاستئثار بحقوق مقابل "هلوكست عنصري" يفترض أنه تورط فيه بعض الأسلاف، ممن رحل إلى عالم الآخرة.

4. مايو 2014 - 13:57

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا