و كانت المسيرة التي انقسم حولها السياسيون و الإعلاميون و المواطنون و المحللون كل بما أوتي من قراءة أو موقف أو تحليل أو تقدير؛ مسيرة جاءت:
· معبرة عن إرادة أصحابها على حد قولهم،
· دون ما أراد لها مؤيدوها ممن ليسوا مقيدين باعتبارات سياسية أو التزامات لأطراف بأي معنى يكون ذلك فيما أبدوه من خلال تصريحاتهم،
· مثبطة لمن دعموها في خطوة هي أكثر سياسية منها عملا ميدانيا تمليه القناعة الثابتة و الإرادة الصادقة في تناول كبريات القضايا التي تهز صمتا و جهرا نسيج الأمة،
· محيرة لإعلام غطاها انسجاما مع الأهواء المبعثرة و القراءات المرتجلة و المخلخلة، و لم يحملها متون وسائطه المتعددة مكتوبة و مسموعة و مرئية بما تستحق في جوهرها من ناحية، و في إطناب فوضوية المشهد بما لا تستحقه أو تتطلبه أو تستدعيه لضيق أفق الحوارية و حداثة العهد بعصر اللادولة من جهة أخرى،
· مربكة للرأي المعلن بـ"منطقه" عن رفض قيام التظاهرات الحقوقية بالطابع العرقي أو الفئوي أو العنصري أو الطبقي، و لكن بتطوير الأساليب المتمدنة و الديمقراطية التي تأخذ كل أبعادها و كامل معناها في الحوار الذي تعوقه الممنوعات الهشة، و المكثف بمستويات العقول الراجحة و التدرج المنهجي إلى الحلول التوافقية المرضية.
مرضية، مثبطة، محيرة، مربكة، صفات متناقضة بقدر تكاملها تمخض عنها الحدث الاستثنائي لتضعه في دائرة اهتمام السلطة و الأحزاب السياسية أغلبية و معارضة بعيدا عن العزف على الوتر اليتيم للبحث عن السلطة غاية قصوى، و المنظمات الحقوقية جادة أو انتهازية، و الإعلام مهنيا واعيا و صنوه هاويا متعثرا.
لا شك أن هذه المسيرة على الرغم من نبل مقصدها و ما انبنت عليه من شرعية المطالبة لشريحة هامة من الشعب بحقوقها غير منقوصة حتى تلعب دورها المعطل في قيام دولة القانون و المواطنة، كانت مسيرة مناقضة في قيامها للدستور نصا و روحا حيث أنه لا يعترف بالعرق أو العنصر، و حيث أنه و إذ لا يؤطر لهما فإنه على العكس تماما من ذلك إنما بوجوده يحاربهما بلا هوادة.
و في إطار ما لا بد منه بد، للحفاظ على الأمن العام و ضمان السكينة، فإن شرعية العمل الميداني على تصحيح الاختلالات و دفع عجلة العدالة بكل أبعادها و أوجهها إلى إكمال دورتها بأسرع ما يكون للوصول إلى محطة دولة العدل و الديمقراطية، أولى من الحراك السلبي الذي قد يقوض مسار البلد إن انزلق في خضم متاهات التظاهرات المعلنة اللون و الصفة، الأمر الذي لا يسقط أبدا شرعية أسباب النضالات و لا يمتلك قوة تأجيل حتمية تحقيق أهدافها.
في الهند لم يحدث أن نظم "المنبوذون" و ما أدراكم من هم المنبوذون، تظاهرات باسم طبقتهم المسحوقة و لكن الشعب الهندي بما أوتيت طبقاته المتنورة من وعي متلاحق منذ بزوغ شمس الهند الجدية و قد وضع لتحقيق ذلك يدا في يد ليقف مع الأب الروحي لشبه القارة "المهاتما غاندي" في وجه الظلامية المهينة لكرامة الإنسان و دفعوا بوتيرة النضال المجرد من الأهواء حتى كان للمنبوذين و غيرهم كل حقوقهم. و تعد مشاركتهم اليوم من أعظم أسباب نجاح الهند في كل المجالات و بكل المقاييس.
و منع مارتان لوثر كينغ الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية من خرق أطر الديمقراطية رغم إجحافها بحقهم و منع مجاراة البيض في تكبرهم و صلفهم و ادعائيتهم الفوقية، و هل نتيجة ذلك السمو و الصبر إلا يمثله السود اليوم من نبوغ و حضور على كافة الأصعدة و بكل المقاييس.
إننا ما زلنا حقا بعيدين في موريتانيا كل البعد عن ذلك المستوى الراقي من الوعي، و إننا لا نخطو في التعاطي مع قضايانا الكبرى المزمنة أية خطوة إلى الأمام بما تمليه ضرورات عصر تغير فيه المعطى الإنساني حتى ناغم المثالية و شف عن هشاشة الاختلاف الواهي و السمو المفتعل بحد الظلم و الجبروت و احتكار المعرفة.
و الادهى و الأمر من ذلك أن الدولة الحديثة و إن كانت ولادتها جائت بإرادة المستعمر الفرنسي من رحم اللادولة التي كانت قائمة، فإنها لم تستطع بما قدمت من فرص التحول الإيجابي أن تفرز نخبة تأخذ النقاء العملي من ما حصلت من العلم و ما أدركت من التفتح. هذه النخب ما زالت متلبسة بمفاهيم الماضي القاسية و عاجزة عن إدراك التحول من حولها.
خلال المسيرة التي نظمت باسم شريحة "لحراطين" لم يسجل التهافتُ على تأييدها أيَ غياب و كأن ما قامت به الشريحة ضرب من التمثيل الذي لا يريد ممثل أن يغيب عن خشبته التي تعج بالممثلين أمثاله و لا أن يفوته العمل بمقتضى ما دخل عليها خشبة، تستقبلُ و تصرفُ، من عوامل التمييع و إسقاط شرعية المطالب.
و لم تكن هذه التظاهرة التي أعلن عنها دون كبير تمهيد أو سابق تردد سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد المطمور تحت محيط سحيق الأعماق من التراكمات السياسية و الاجتماعية المتعلقة بالهوية. فلم يمض يوم حتى تم الإعلان عن انطلاق مسيرة راجلة من مدينة بوكي باتجاه العاصمة نواكشوط أصحابها منظمون و مشاركون مواطنون زنوج يطالبون بحقوق قالوا إنها مهدورة، مسيرة تعيد بما شفت عنه إلى الأذهان أحداث 96 المشؤومة و شريط مآسيها المحزن، في أحادية التهم و الشجب والمطالب. وطبعا فإن هذه المسيرة لاقت كذلك تعاطفا عفويا ولا مشروط من بعض الفاعلين السياسيين والحقوقيين لتحقيق اهداف سياسية فورية ولتقوية الأرصدة أمام الاستحقاقات المقبلة. و لن يكون ببعيد من هذا المنطلق أن تتظاهر شرائح تعاني الغبن و التهميش و رفض شرعية المطالب و الأهداف في نفس سياق المسيرتين الآنفتين.
و مهما كان من أمر فإن مثل هذا الحراك الذي يحمل طابع المطالبة بالحقوق و لكن بصيغ ما لم تؤطر قد ينقلب وجه الحق فيه نقمة لا تدرك مآلاتها. و يستدعي الأمر بأسرع ما يكون نبذ الغفلة السياسية التي لا تجاري هذا الحراك مجاراة تراعي وجه الوطن في أمنه و استقراره و وحدة أطيافه و إنما فقط لقضاء حاجات مكشوفة و إن خفيت في نفوس سدنتها و محتكري أطرها.
كما أنه لا بد والأمور تجري على وجه لا يلامس الديمقراطية بكل ضماناتها ولا يحترم الدستور في قوته، من وعي شامل بحقيقة التحول الذي يشهده البلد في الألفية الثالثة و في العقد السادس من عمر الدولة المستقلة و من ثم المراجعة التامة التي تمليها التحولات العميقة في بنية المجتمع و عقليات أهله ومتطلبات المرحلة، وهي التحولات التي لم تعد مواجهتها ممكنة كما يفعل النعام عندما يحدق به الخطر من كل جانب فإنه يدس رأسه في التراب ظنا منه أن صرف النظر عن واقع الخطر منجاة من وقوع البلاء.