الشيخ بداه(حياته من خلال توظيف لسيميائية عناوين مؤلفاته) / محمدن بن الرباني

لم يكد ينهى الإمام محمدو بن محمدو ابن البوصيري الشهير ببداه نظم "رحلة الحج" في طلب العلم إلى من أدرك من أوعيته وقاماته الفارعة من أمثال الشيخ أحمدو الحسني الذي استغنىى بنفسه عن النسبة إلى أبيه

 والشيخ محمد سالم بن المختار بن آلما اليدالي والشيخ المختار ابن ابلول الحاجي والشيخ محمد عالي بن عبد الودود المباركي، وغيرهم، حتى تصدر -وهو في ريعان الشباب- لخلافة شيوخه في تبليغ ما تلقى منهم وما أفاده بعدهم دأب الأسفار ومفاكهة الأخيار واقتناء الأسفار فعاش ما ينيف على عشر سنين يسير سيرة المختار بن بونة يوم وصفه الواصف:
لكَ اللهُ مِنْ شيخٍ إذا ما تبوّأَتْ ... تلامذُه مأوى لنصبِ المدارسِ
تيمّمَ ميمونَ الخصَاصةِ فاتِراً ... على ظهْرِ مفتولِ الذراعين عانسِ
يفزعُ نون البحر طوراً وتارةً ... يُهدّمُ جُحْرَ الضَّبِّ فِي رأس مادِس
ثم سكنت بالإمام الدار واستقر به القرار يوم ساقه الله إلى العاصمة انواكشوط مع ابتداء إنشاء الدولة الموريتانية الحديثة فكان أن وضع "الحجر الأساس" لمنهج إصلاحي راشد يواكب انطلاقة الدولة ويرسي "الفلك المشحونة" التي تقله عند شاطئ الأمان.
كان ذلك المنهج قائما على "تنبيه الخلف الحاضر" بحقيقة ما يجابه البلد من تحديات ومخاطر و"تنبيه الحيارى" على ما نسخت المدينة من فقه سكان الصحارى و"تنبيه النقاد" على أن السلامة في سلفية الاعتقاد و في العمل بالراجح ولو خالف مشهور مذهب البلاد، و"تنبيه الجماعة" على أساليب تطوير الفرد والجماعة، و"تنبيه الأنام" على محاسن الإسلام و"تنبيه المغتر" على مخاطر أصناف المنكر وتنبيه الحكام إلى سلوك "أسنى المسالك" لتبديد الظلام.
كان الشيخ بداه في منهجه الإصلاحي يقذف الدر النضيد من قاموس بحر غطمطم مديد، يندفع آذيه كالأتي الهادر فتغمر تحفه جميع الأجناس بالنضار والماس، فينمق "تحفة الجماهير" وفاء بحقهم، ويزركش  "تحفة الكرام" اعتبار لمكانتهم، ويوفي النساء حقهن اعترافا بخطورة الدور المناط بهن، مستوعبا حقيقة التنوع الوطني في المجتمع من خلال "تحفة النساء السود والبيض"، ولا يكل الأطفال إلى رعاية الآباء وتنشئة الأمهات لأن العناية بهم كسب للمستقبل الآمن فلم يفتر عن "تحفة الولدان" مبدعا في "إتحاف ذي النجابة" خاصة وفي "تحفة الحذاق" عامة.
واستشعارا من الإمام بضعف مستوى الصحة في مجتمعه واقتصارها على علاج الأجسام أضحت حضرته مشفى لأدواء القلوب والمجتمع غير مكتف بالإسعافات الأوليه ولا بالحجز تحت العناية المركزة، يل تعدى ذلك بطرافته المعهودة وظرافته المشهودة وعلومه الممدودة إلى "إسعاف الظرفاء" بنوادر الشعراء والأدباء و "إسعاف المهره"  ببواطن وظواهر سلوك البررة، من نشر الإحياء وطي المطهرة.
امتاز بداه بأنه إذا خاض في الشأن السياسي الذي يرى صلته بالدين عضوية يعرب عن "القول السديد" وإذا حلل التقاليد البالية أو العادات الوافدة كان تحليله "القول المحقق المدقق" وإذا جال في النزاعات العلمية ومواطن الخلاف أبرز "القول الفصل" و"القول المشتهر" ونصر "القول المبين" صوابه بالدليل لا بالتزام مذهب معين، سائقا أدلة النقل حتى إذا أوعب عاج على أدلة العقل فجاءت أقواله "الأقوال الراجحة" ترتقى صاعدة "سلم التحقيق" ترفعها "الحجج المتكاثرة" وتقدم "الأجوبة الأريضة" كاشفة عن "حسن التقاضي" من المخالف ولو كان والدنا القاضي؟.
كان مسجد الشيخ بداه "منار الوقف والابتداء" للطلاب والوجهاء وللعفاة والدهماء، فيه "نيل السول" من كل مسؤول و "كشف الحجاب والرين" عن كل قلب وعين و"تعجيل المنفعة" في جعل الدنيا مزرعة، و"تلقى مبادئ الرسوخ" في علم المنسوخ وغير المنسوخ و"إعلام الجماعة" بفوائد العمل والطاعة و"شد الأعضاد" لما فيه مصلحة المسلمين والبلاد.
لم تكن جهود الشيخ بداه مجرد تربية أو تعليم عامة ومبتدئين بل اجتاز ذلك إلى "تذكرة الراسخ" بضرورة اجتهاد من هو في العلم راسخ و"تذكرة المهتدين" بذم التقليد الأعمى في الدين، وكان ربيئة الشرع يرقب تحرك بناة الدولة الحديثة فإذا آنس ما يريبه حرك "الكتائب الشرعية" لصد هجوم القوانين الوضعية والمذاهب الإلحادية، وكانت خطبه المدوية المجلجلة المزلزله تعبيرا عن "مصدور نفث" ليحرق من البدع كل حدث ومن الاستلاب كل خبث.
وهو وإن كان أبو الدعاة الحامي حماهم والمدافع عن مرماهم ،فقد ظل رجل الأمة يسدل على كل فرد منها عباءة المحبة والنصح، لا يخرج على الحكام ولا يطوع لهم الأحكام، ينتقدهم في العلن ويشكر مقتصدا ما أتوا من الحسن.
هكذا حاز بداه بتلك المزايا صفات المصلح والمجدد والإمام والشيخ والأديب والعلامة وكان شيخ المصر الذي تمتد منه الشرايين متدفقة بنمير يمتزج بنمير مياه إدين ليشكلا عصب الحياة الدينية والدنيوية للعاصمة التي ظل بها "بغية الميمم" المسترشد المستفهم  يتجسد فيه "منح الجليل" الذي قلما يتكرر في جيل.
وحين صعدت روحه إلى عليين بإذن رب العالمين شيعه الآلاف على خرير طوفان من الدموع وفاضت قرائح الشعراء والكتاب بأسفار من المراثي والتأبين غير أن ذلك لا يغني عن أن نتمثل فيه أبيات عبدة بن الطيب في قيس بن عاصم:
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ قَيسَ بنَ عـــــاصِمٍ **  وَرَحمَتُهُ ما شاءَ أَن يَتَرَحَّــــــــــــــــــــــــــــما
تَحِيَّةَ مَن أَلبَستَهُ مِنكَ نِعمَـــــــــــــــــــــــــــــــــةً **  إِذا زارَ عَن شَحطٍ بِلادَكَ سَلَّما
فَما كانَ قَيسٌ هُلكــهُ هُلكُ واحِدٍ **  وَلَكِنَّهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَـــــــــــــــــــــــــدَّما

10. مايو 2014 - 13:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا