لا شيء يفوق العدالة سوى الإنصاف / سيد أحمد ولد محمد

لقد اعتدت منذ فترة أن أتناول في كتاباتي هما كبيرا يسكنني، ألا هو الوحدة الوطنية لهذه البلاد التى بدأت تهب عليها رياح عدم الاستقرار الناتج عن التجاذب بين مختلف شرائح المجتمع حتى أن الأمر بدأ يطرق و بعنف باب شريحة البيظان

 التى نصبت نفسها وصية على الدولة الموريتانية منذ نشأتها من حيث الثقافة و البعد التاريخي و الانتماء القومي. للأسف لم تتمكن تلك الشريحة متعددة الفسيفساء من الحفاظ على تماسك مكوناتها و ذلك نتيجة للتهاء منظريها بالركض وراء خدعة الانتماء العربي بتياراته المختلفة و ترك شأنها الداخلي لعشوائية الزمن و كأنها تناست أن الزجاج إذا كسر فمن الصعب إعادته كما كان. إن ما تعيشه هذه البلاد اليوم على المستوى الإجتماعي هو نتيجة حتمية لسوء تصرف او لجهل أو لإهمال أدى الى خروج بعض الفئات من تحت عباءة تلك الشريحة. فقد شهدنا ميلاد حركة الحر ثم حركة إيرا و مؤخرا حراك لمعلمين، في ردة فعل على التهميش و التجاهل و لا ندرى ما تخبئه الأيام المقبلة.
لقد درج المجتمع و الأنظمة المتعاقبة على شيطنة تلك الأصوات و نعتها بالعمالة للأجنبي و تسفيه مطالبها و العمل على زرع الشقاق بين نشطاءها بدل البحث في أسباب الظاهرة و إيجاد حلول مناشبة لها.
إن مسيرة حقوق لحراطين التى جرت أواخر الشهر المنصرم يمكن البناء عليها لإعادة بعض الصحة للجسم البيظاني المريض و ذلك بإتباع أحسن الحلول لتلبية مطالبها العادلة حيث يمكن اعتماد سياسة التميز الإيجابي لتصحيح جزء كبير من الحيف الذى عانته هذه الفئة. 
في انتظار توفر الإرادة السياسية لدى القائمين على شؤون هذه البلاد لإقرار هكذا سياسة، ارتأيت أن أشارككم بعض المعلومات القيمة عن سياسة التمييز الإيجابي.   لأجل ذلك يصبح لزاما التركيز على هذا المفهوم من حيث الدلالة و المنظور الدستوري و القانوني مرورا بالنتائج المتوخاة منه، و ذلك اعتمادا على تجارب الآخرين و ما دونوه في هذا الشأن، لعل كل هذا يجد آذاننا صاغية هنا أو هناك.

مفهوم التمييز الإيجابي
إن مصطلح التمييز الإيجابي يحمل في طياته الضدين، عبارة التمييز و هي سلبية و عبارة إيجابي و هي بالتأكيد ترمز للشيء الصحيح، إلا أن دمج الكلمتين يعطي لهذا المصطلح دلالة إيجابية. لكن قبل أن نذهب بعيدا، فل نحاول عرض الحالة الحرطانية على هذا المصطلح، لنرى مدى تطابقها مع مفاهيمه و الحلول التى يمكن أن نستنبطها من خلاله. إن أول سؤال يتبادر لنا هنا هو: ما هي الأمور أو الحالات التي يمكن إدراجها في دائرة هذا المفهوم؟ و من هنا يمكننا الاستعانة ببعض المراجع المرموقة للإجابة على سؤالينا. حسب  Le petit Robert، المعجم الفرنسي الشهير، فإن التميز الإيجابي يقصد به "أي عمل يقصد منه تفضيل بعض الجماعات قليلة التمثيل من أجل تصحيح اللامساواة" و هذا التعريف ينطبق تماما على حالة المرأة الموريتانية فى الانتخابات البلدية و التشريعية، مما يؤكد أن الدولة الموريتانية تؤمن بهذا المبدأ. أما التعريف الأصيل و الأعم لهذا المفهوم فينص على ما يلي: "التميز الإيجابي مفهوم عام يهدف لمنح امتيازات تفضيلية لشريحة أو شرائح من المجتمع من أجل التعويض عن لا مساواة متجذرة و ذلك بهدف إرساء شروط المساواة في الفرص التى يفترض غيابها بسبب التهميش أو الغبن التاريخي". إن هذا التعريف يعيدنا الى الأسباب المباشرة للمطالبة بالتميز الإيجابي لحراطين. تلك الأسباب هي: اللامساواة و  الغبن التاريخي و التهميش و كلها كلمات وردت فى التعريف و هذا ما يتماشى تماما مع روح التميز الإيجابي و منطقه و يبرر  بعض مطالب ميثاق لحراطين, ولكي يمكن تطبيق هذا المفهوم بدقة فلا بد من تحديد مواطن الغبن و اللامساواة بدقة أيضا، فهل هي في فرص العمل أو على مستوى التعليم بمراحله المختلفة أم على مستوى الاستصلاح الترابي... إلخ.
إنها بكل صراحة تشمل كل ذلك و أكثر. فعلى مستوى فرص العمل بكل مستوياتها، نرى أن نصيب لحراطين و بعض الفئات الأخرى، دائما ما يكون متدنيا في التوظيف و التعينات و الترقيات المختلفة و حتى على مستوى المناصب الانتخابية. أما فيما يخص التعليم العام بكل فروعه فيمكن ملاحظة غياب المدارس في الكثير من آدواب و التجمعات السكنية الخاصة بهذه الفئة أما بالنسبة لمؤسسات التعليم النخبوية، كمدارس الامتياز و مدرسة الإدارة  و كلية الطب و مدارس  النخبة الخاصة، فإنها تشكل تحديا أمام أبناء الطبقات المهمشة. بالنسبة للاستصلاح الترابي فإننا نلاحظ أن كل الخطط المتبعة لم تؤدي إلا الى تكديس المهمشين في أحزمة الحرمان حول المدن، حيث تغيب الدولة و خدماتها غالبا. مما يؤدى لنتشار الجريمة و الانحراف الأخلاقي بكل أشكاله كما قد يؤدي للإحساس بالقهر و التطرف و يولد مشاعر الكراهية اتجاه الآخرين.
إن تنامي ظاهرة التهميش و الغبن في أوساط لحراطين و غيرهم أدى الى خلل في الميزان الإجتماعي الموريتاني، حيث تميل الكفة الأخف بالكفة الأثقل، بمعني أن ثلة قليلة من المجتمع تستفيد من موارد الوطن على حساب الغالبية العظمى من الشعب.
هل التمييز الإيجابي دستوري؟
يقول الدستور الموريتاني في مادته الأولى: )موريتانيا جمهورية إسلامية لا تتجزأ، ديمقراطية واجتماعية. تضمن الجمهورية لكافة المواطنين المساواة أمام القانون دون تمييز في الأصل والعرق والجنس والمكانة الاجتماعية. يعاقب القانون كل دعاية إقليمية ذات طابع عنصري أو عرقي(. لذا يمكن للبعض التمترس خلف هذه المادة لرفض مبدأ التميز الإيجابي لصالح لحراطين لما قد يرى فيه من عدم مساواة على أساس الأصل. لذلك فلا بد من الإشارة لوجود ثلاث مدارس رئيسية تناولت هذا الموضوع.
المدرسة الأولى تقول بضرورة إعلاء نص الدستور على غيره من الاعتبارات و بالتالي ترفض التمييز الإيجابي. لحسن الحظ هذه المدرسة ليست متبعة في موريتانيا، فكما قلت سابقا، فنحن نطبق التمييز الإيجابي لصالح المرأة. أما المدرسة الثانية فترى أن مبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور يمكن تعطيله عند الضرورة و هنا يمكن تطبيق التميز الإيجابي بصيغة "الإعفاء Dérogation" لأنه، أي التمييز، يعتبر فعلا سياسيا مؤقتا و محدود زمنيا، تجب إزالته فور تحقق أهدافه
المدرسة الثالثة، ترى أن التمييز الإيجابي يخرج عن دائرة المساواة المنصوص عليها في جميع الدساتير و تربطه بإعادة تعريف العقد الإجتماعي (Pacte social) و ارتباطه بمبدأ الإنصاف لا بالمساواة. إنها مدرسة فرنسية تتخذ من مقولة Victor Hugo الشهيرة، أساسا لها. فقد نقل عنه قوله: "لا شيء يفوق العدالة، سوى الإنصاف"، إذا هنا يقوم مفهوم التمييز الإيجابي، على مبدأ العدالة الذي يعلي من شأنها على حساب المساواة المطلقة فى المعاملة.
إذا مما سبق ذكره من أراء المدارس الثلاثة و حسب متابعتي للمشهد السياسي الموريتاني، خصوصا السنوات العشرة الأخيرة، فلن يحتار المشرع إذا أراد إقرار التمييز الإيجابي لصالح فئة لحراطين و من على شاكلتها من المهمشين و ذلك لكون الأمر ليس سابقة قانونية  كما أنه ضرورة تستدعيها المصلحة العليا للوطن. فقد جربنا قانون الكوتة النسوية و قانون عدم الترشح المستقل. إذا فالدستور الموريتاني يمكن  اعتباره من مريدي المدرسة الثانية فيما يخص الإعفاءات فى المواضيع المتعارضة مع روحه. زد على ذلك أن القوانين عندنا تتم دسرتها بمصادقة ممثلي الشعب المنتخبين، عليها، كما هو الحال في باقي الديمقراطيات، مما يعطيها القوة القانونية اللازمة.
إن إقرار هكذا سياسة في بعض مجالات الحياة العامة في بلادنا، كالتعليم و الاستصلاح الترابي و الولوج الى الوظائف العامة  و الخاصة، سيؤدى الى ردم قاع الهوة السحيقة بين أفراد المجتمع مما سينعكس إيجابا على إحساس الأفراد و الجماعات بالانتماء لهذا الوطن و الامتنان له كما سيعزز الوحدة الوطنية نتيجة استرضاء أولئك الذين عانوا التهميش و الحرمان لأمد طويل. و هكذا فسيكون بإمكان الموريتانين جميعا السير قدما في بناء وطن جامع يحنو على جميع أبناءه بغض النظر عن ألوانهم أو أعراقهم أو شرائحهم.
يتواصل: في الجزء الثاني سأتناول بعض النماذج و المقترحات المتعلقة بالتمييز الإيجابي في قطاع التعليم، وفقا للنموذج.
 

12. مايو 2014 - 11:31

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا