في الجهوية و القبلية / عبد الرحمن ودادي

أثناء مقامي في دمشق الفيحاء وقعت عيني بالصدفة على هامش في إحدى الدراسات يحيل إلى عنوان كتاب يدعى " الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة" لباحث هولندي اسمه نيقولاس فان دام.

أخذني الفضول و طفقت ابحث عنه في كل مكتبة .سألت عنه صديقتي مديرة مكتبة ميسلون فتحولت ابتسامتها الى تكشيرة وقالت: لم اسمع في حياتي بهذا الكتاب و تملصت مني بفجاجة.!

سألت عن الكتاب مكتبات أخرى و كانت الردود كلها مقتضبة و مبهمة و تصاحبها غالبا علامات دهشة ما !

انتهى بي التجوال إلى مكتبة الأسد و هي اكبر مكتبة عامة في سوريا فقال لي موظف الاستعلامات بدون النظر في السجل :

هذا الكتاب غير موجود وغور من وجهي و إلا هاتفت الأمن .!

زاد فضولي و استفحل و قررت ألا مناص من قراءة هذا الكتاب .

بقاهرة المعز توجهت صوب سور الأزبكية حيث تباع الكتب النادرة و النفيسة على قارعة الطريق فسألت هناك احد الباعة فنصحني بالتوجه إلى مكتبة مدبولي البعيدة.

في تلك المكتبة سألت عن الكتاب فتوجه البائع إلى المدير يستفسره ، وخرج إلى رجل عجوز في جلابية بيضاء و سألني ان كنت اسكن في سوريا فأجبته نعم.فقال : يا بني اياك ثم اياك ان تحمل الكتاب في رحلة العودة معك فعقوبة مشتريه و حامله و المحمول اليه تتراوح بين المؤبد و الاعدام .

التهمت الكتاب و انا في القاهرة و تخلصت منه قبل العودة و بقي في ذاكرتي منه استنتاج بسيط هو ان الحكم الشمولي الذي تمارسه الأقلية العلوية هو سر منع الحديث عن الطائفية في سوريا و اعتبار أي اشارة لها خطيئة لا تغتفر.

حلت الحرب بالديار الشامية و تجلى للعالم مدى شراسة الطغمة الحاكمة وفي لمح البصر اكتشف الجميع ان الحديث لعقود عن القومية العربية و الاشتراكية و الوحدوية مجرد غطاء لحقيقة النظام الطائفي

عندما يحظر النقاش في أي موضوع سياسي فتلك محاولة اخفاء و التفاف على الحقيقة ....في موريتانيا هنالك محظورات كثيرة و أهمها الكلام عن القبيلة و الجهة....والغريب في الأمر ان المجتمع الموريتاني مجتمع قبلي و جهوي في الأساس .هذا ما اكتشفه الفرنسيون و أسالوا انهارا من الحبر في دراسته..وهذا ما يعرفه كل الموريتانيين و يتواضعون عليه لذلك في كل مرة تقابل أحدهم سيسألك حتما سؤالا تقليديا هو:

أنت من أي لخوت ؟

لقد اعتمدت الدولة دوما محاصصات و توازنات تتناسب مع ما توليه من أهمية لكل قبيلة و لكل جهة وبشكل يكشف انها تدير خريطة قبلية وجهوية وكدليل على ذلك نجد ان النشرات الداخلية للدرك الوطني و مكتب الدراسات و التوثيق ووزارة الداخلية كلها تسمي الأشياء بمسمياتها وتكشف الحقيقة القبلية و الجهوية لهذه البلاد والسبب في ذلك إنها موجهة حصريا لأصحاب السلطة الذين يحتاجون لمعرفة الحقيقة عارية و صلعاء.

المثقفون حرام عليهم كتابة سطر واحد عن هذه الحقيقة و ان كانوا في مجالسهم لا يتحدثون الا عن القبائل و الجهات و التوازنات الإثنية و هذه هي ازداوجية الشخصية بكل قسماتها المرضية.

من أمعن النظر في الخريطة السياسية الموريتانية سيكتشف و من دون أي جهد ان الحكم في موريتانيا حكم قبلي و جهوي.

فما ان يجلس الحاكم على العرش حتى تصعد معه مباشرة ثلة من أقاربه و أبناء عمومته و حلفه الجهوي و يشكلون خلفه ما أسماه عبد الرحمن بن خلدون " العصبية". و مباشرة يبدأ الإقصاء و التهميش يحل بالآخرين و يصبح مجرد الكلام عن هذه الحقيقة خيانة للوطن و دعوة للفرقة و رفضا للآخر .

اذا تألم احد من أهل الساحل وهو يرى الذهب و الحديد و الثروة السمكية تنهب من ارضه وبحره في الوقت الذي يتشرد فيه أبناؤه في أوروبا طلبا للقمة تسد جوع البطن فأنا شخصيا أتفهمه ولا أجد في ذلك جهوية ولا تحيزا ..وهو نفس التضامن الذي اعبر عنه لسكان مناطق "القبلة" الذين عانوا الأمرين نتيجة بروز زعامات منهم قررت مقارعة أنظمة الفساد و كذلك الحراطين الذين لا يرضى وضعهم صاحب قلب حي و لا المعلمين ولا التكارير الذين قتل أبناؤهم ظلما و عدوانا و ها هي أراضيهم الخصبة تقسم على الأجانب بدون مواربة ولا مداراة.

الظلم درجات كما ان المرض درجات ... هناك الشقيقية و الانفلونزا و الملاريا و السرطان و الإيدز..و لا تعني الشكوى من احد هذه الأمراض استخفافا أو إنكارا لألام المصابين بأمراض أخرى.

جل مظالم أهل هذه البلاد تم الحديث عنها بدرجة من الدرجات إلا مظلمة واحدة ... وهي مأساة أهل الشرق .

من الطبيعي ان ينزعج النظام الحاكم و ان تتكالب أقلامه المأجورة على كل من يفتح هذا الجرح العفن ويفضح حقيقتة المنحازة وضيق أفقه وعصبيته النهمة والجشعة التي تريد إقصاء الكل.لأن النظام يستغفلهم ويحتقر قدراتهم العقلية بكل بساطة.

عندما فتح الجنرال ولد عبد العزيز الباب لتأسيس بنوك و مؤسسات مالية جديدة أغلق الباب أمام تجار الشرق رغم مكانتهم المرموقة في تجارة الحلال والسبب في ذلك هو معرفة النظام انه اذا تمكن تجار الشرق من دخول عالم الأعمال سيكون ذلك سببا ليقظتهم كما اثبتت تجارب الطينطان و قرو في الانتخابات الأخيرة التي برهنت على ان الاستقلال المالي و التحرر من ربقة الجوع هي الخطوة الأهم في وقف التبعية العمياء و تحكم النظام بآراء و خيارات الناس.

حاول الكثيرون من تجار الشرق دخول عالم الصفقات و الأشغال العامة و ساعدهم في ذلك شتاتهم في المهجر و امتلاكهم لقاعدة مالية صلبة . لكن الباب ظل موصدا بشكل ممنهج أمامهم و لا أدل على ذلك من حالتي الأمانة و لد المجتبى و عبد الله و لد محمد محمود .

ولد المجتبى انصاري اسس ثروة طائلة في الغربة و فاز بصفقة الرقابة التقنية للسيارات التي نظمتها وزارة التجهيز و النقل ... ووضعت في وجهه الكثير من العراقيل و الشروط التعجيزية منها طلب ضمانة مالية بمليار اوقية نقدا، لكنه لبى كل دفتر المناقصة وفاز بجدارة .فتم الغاء الصفقة دون ادنى مبرر!

عبد الله ولد محمد محمود مقاول من نفس القبيلة و نفس الجهة فاز بصفقة بناء ملعب نواذيبو وكانت النتيجة أيضا إلغاء الصفقة واعتقال بعض الموظفين الذين برئت ساحتهم لاحقا ليتبين ان الهدف من هذه المسرحية كان حرمان رجل من الشرق من دخول عالم محرم على أمثاله وهو عالم الأعمال العصري والمتمدن فحسبه ان يواصل تجارته في سوق شعبي راكد..

ما حل بهاتين العينتين اللتين لم تشفع لهما قرابتهما بقائد الأركان تحذير لغيرهم و قديما قيل : إذا ضرب الإمام خاف المؤذن !

لا يتوقف الأمر على الصيرفة و الأعمال بل يمتد إلى كل قطاعات الحياة فعلى سبيل المثال عندما فتح المجال لتأسيس القنوات الإذاعية و التلفزية تمكنت المجموعات المالية التي تنتمي لقبيلة الرئيس وجهته من السيطرة على الإعلام واصبح واضحا ان وراء كل إذاعة أو تلفزيون توجد مؤسسة مالية تعتمد في نشاطها وأرباحها على امتيازات يرعاها رئيس الدولة شخصيا .

ازدادت جرعة السخرية عندي وعند غيري حين تم منح اذاعة تحت اسم "كوبني " لرجل لا ينتمي للشرق امعانا في التضليل والتمويه و الاستهزاء بالعقول.

السيطرة على المال تحولت الى سيطرة على العقول و هي سيطرة نتجت من القوة العسكرية و هكذا أصبح الحديث عن الجهات و القبائل ممنوعا و محظورا و من الكبائر و الفواحش كما هو حال كتاب صاحبنا الهولندي سالف الذكر.

سيحتج البعض معتبرا أن اقصاء بعض اقارب الرئيس وظلمهم دليل على عدم قبلية النظام و لكن أي دارس متمحص للتجربة السورية سيكتشف ان حافظ الأسد عفى عن الكثير من معارضيه باستثناء ـ صلاح جديد العلوي الطائفة و الحاكم الفعلي لسوريا قبل انقلاب الاسد ـ الذي قضى نحبه في سجن استمر ثلاثا وعشرين سنة ، لقد اعتبره خطرا داهما لأنه يهدد بشرخ العصبية الحاكمة .

سيعترض آخرون على ما أقول و سيذكرون الناس بوظائف ولد الغزواني وولد محمد الأقظف لكن ما لا يعرفه الناس هنا هو ان قائد الأركان ورئيس الحكومة في جل الحكومات السورية المتعاقبة من الأغلبية السنية المضطهدة.

السكوت عن أي مظلمة بحق أي جهة و اقبيلة او اثنية جريمة في حق الوطن وجبن مفضوح تمارسه النخبة المثقفة إرضاء لمصالح من افسدوا البلاد و أذلوا العباد.

14. مايو 2014 - 12:40

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا