لا أحب النقد الجارح، خصوصا عندما أتكلم عن نفسي، وعن باطل يزعج المتعامين الحديث عنه، ولست في هذه السطور لأرد على التجار، أو أصنف الناس كحانوتيين أو مبتدعين، أو مجانين، ذلك شأنهم أولا وأخيرا، من أحسن فلنفسه،
ومن أساء فعلى أم أبيها. لكني هنا لأعلق على بعض الأمور التي تدفعني إلى السخط والتبرم، مدليا برأيي في مزبلة الآراء التي تزكم أنوفنا في هذا البلد.
وسأبدأ بهذه الدنيا الفانية، حفظنا الله من تمايلها، خصوصا دنيا نواكشوط المسودة. المدينة الشاذة المتنامية بطريقة عجيب لا أعتقد أن لها مثيلا لها في عالم العقلاء.
والتي لا يزال سكانها – وأنا واحد منهم للأ...ف - يحملون على ظهورهم أكوام الرمال التي قدموا بها من أعماق الصحراء، ويكرهون التحضر، ويتسابقون كالمجانين إلى تحقيق حظوظ أنفسهم، والمرح في كزرات شهواتهم التي تخفي من الأشواك الحديدية أكثر مما تظهر من الورود الاصطناعية..
لا تتجلى متعة الربح المخزي (أو الغصب بمعنى أصح) على حقيقتها إلا إذا كان على حساب الآخرين سواء كانوا دولة أم أفرادا عاديين..
البيظاني وأخوه، لا يستمتع إلا عند مخالفة اللياقة والقانون، لحظتها يقال أنه صاحب شخصية متميزة مقتدرة، وتشير المتبلدات إليه بأصابع الثناء والهيام..
البيظاني "سوبرمان"، لا يعجزه شيء، يتحدى حتى نواهي ربه جل جلاله عن أكل المال الحرام، وعن الغش والخيانة، وعن اتباع الهوى..
وهو جاهز لتحقيق المصلحة خصوصا إذا كانت شيطانيةن فتلك التي يطرب لها، ولو أعقبها توسده للتراب، كالتزوير، والتطبيل، والظلم، هو جاهز للمخاطرة بجنة الخلد، عياذا بالله..
وجلالته – أو بداوته بصفة أصح - لا يحب الطرق القانونية السليمة، فهو آفة على الطوابير المنتظمة ينخرها مثل السوسة نخرا، ومصيبة على الطرق المعبدة وملتقياتها، يتلوى بسيارته المعادية للبيئة مثل الثعبان، لا يثبت على اتجاه واحد كما لو كان في سباق مع بعض العفاريت (بل هو فعلا في سباق معها).
ولا يصبر على السير بسيارته بإذعان خلف السيارة التي تتقدمه، بل لابد له من التجاوز (الدوبلاج الأرعن)، وإن اضطره ذلك إلى القفز بسيارته من على الشارع ليزاحم المهمومين من المارة الذين تشوي الشمس والحكومة وجوههم وجيوبهم..
وهو بطل في مجالسه التي لا يذكر فيها إلا الشيطان، والويل لمن هو دونه من الكبر الجنوني الذي يحركه، يسلم على من ليس من قبيلته ومعارفه، برؤوس أصابعه، خصوصا إذا بدا في هيئة مزرية أو أقل منه ظاهريا، وكل استخفاف سخيف، ولا مبالاة بالغير يعتبر عنده دليلا على الرفعة والرزانة، والنتانة!.
وهو عجيب في الدين، يتمسك بمذهب مالك مقلدا، وإن كان عالما، رغم أن المذاهب فيها أخطاء، لكنه لا يبالي، المهم أنه مالكي أشعري، ولا يهم بعد ذلك الفرق بين الصواب والخطأ، والصلع والشعر..
يوالي أهل البدع كالشيطان الأخرس، يرى الباطل ويسكت عنه نفاقا، وتقديما للخلق على الخالق، كل ذلك رغم صراخه ليل نهار في المنابر بضرورة تغيير المنكر، وأي منكر أنكر من إفساد الدين من داخله، وهو ما تفعله البدعة رغم اعتقاد أصحابها أنها تصلحه!
وقد كتب أحد البيظان سلسلة مقالات تحت العنوان "المسار الحانوتي"، صب فيها جام غضبه على بيظاني آخر يقيم في القصر الرئاسي إلى أجل قريب لا يعلمه إلا الله..
وقبل الحديث عن هذا المقال الطريف الظريف الذي لا ينفع، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أقف وقفة مع الإنتكاسات المتتالية، والمفاهيم المقلوبة التي ابتلينا بها في هذا العصر..
لقد أصبحت الثقافة بديلا للتفقه في الدين، فإذا أردت أن تبدع وتنال الجوائز والتقدير، فتعلم السياسة والكذب ولعب الكرة والأدب والفنون القبيحة، والإخراج المكسيكي الطويل، وسيسمع لك الجميع، ويقدرونك، وتطاردك الأضواء والفتيات، وتحصل على لقمة العيش الشهية التي يحلم بها شيخ المحظرة التقي النقي المكرس حياته لخدمة الدين!.
هذا هو مستقبل أطفالنا في ظل هيمنة الشيطان على الأسر الغافلة والمتسيسة، يرسل الأب أبنائه إلى مدارس الأجانب ليتعلموا لغة الأعاجم، ويتشربوا عوائدهم الدنيوية المخزية.. في حين يستمتع هو بمشاهدة قناة الجزيرة المشئومة التي أصبحت منارة البيوت عندنا. إما في متابعة الأخبار أو متابعة المباريات المملة المضيعة للوقت فيما لا ينفع، ويثرثر أثناء ذلك كله بكلام كثير لا يحسب له إلا أقله، حول الرئيس عزيز، والرئيس ولد داداه، والرئيس مسعود، والرئيس إبليس، وإذا تذكر الصلاة قام فنقر كالغراب المستعجل دون علم أو بيان، ولو خصص الوقت الذي يتابع فيه نشرات الأخبار اليومية وحدها لحفظ موطأ مالك، لحفظ معه صحيح البخاري، ولكن الشيطان غره، والحزب أضله، وعن الصراط المستقيم أبعده.
أوهمه بأن السياسة هي مفتاح الجنة (جنة تفرغ زين)، وأن الحديث في الدين، وعن الله ورسوله، تشدق وتخلف ورجعية، حتى عاد المتحدث عن ذلك غريبا تطارده نظرات الإستهجان، خصوصا إذا فتح فمه بما لا يذوب فيه أهل البدعة والسياسة، رغم أن البدعة وغيرها، مسائل حوارية، تناقش ليتبين الصواب منها، فهي في حقيقتها مجرد آراء وأقوال لبعض البشر الفانين، لا يضر الحديث عنها، ولا يُدخل النار التعرض لها، وقد نوقش في الدين ما هو أكبر منها كمسألة وجود الخالق جل وعلا، وصدق الرسالة من أصلها!
لقد أصبح التافه من رويبضة السياسة، والفن، والأدب، هو حامل مشعل التقدم والإزدهار، وسفير بلده في المحافل! تراه يتصدر المجالس كما جاء في الحديث، وهو جاهل بالدين، كذاب منافق، لا يبحث إلا عن رضا الدنيا الشمطاء التي تغويه..
وأشد ما يزعجني في مسألة تصدر رويبضة الفكر – خصوصا الذين يزعمون أنهم إسلاميون منهم، وهم كثر، قللهم الله -، الذين يقيمون فكرهم إما على أساس مخالفة أسس الدين على طريقة "خالف تعرف"، أو على أساس مناقشته بهدف نخله، واعتماد ما يوافق هواهم منه، وهم أجهل الناس بآياته وأحاديثه ومقاصده، فقط لأن الواحد منهم درس الفلسفة والسياسة، أصبح في نظر نفسه، والغربان التي تتبعه، أهلا للتصدر، والزعيق في الفضائيات، والنعيق..
فتراهم يعقدون المؤتمرات، ويثرثرون حول مسائل الدين الكبرى على طريقة "أرى، ولا أرى"، ولو وجد من العلماء الربانيين من يتابع أقوالهم، ويتمتع بالأضواء المسلطة عليهم، لضربهم بالعصي، وحجر على أقوالهم، وأثبت أنهم يهرفون بما لا يعرفون، والمؤسف أن عددهم في تكاثر بسبب تناقص العلماء الربانيين، وسطوة التعليم الغربي الحر والمقيد، حتى أصبح الدين بسببهم يعيش معاناة من الداخل، فأهله للأسف – إلا ما رحم ربي-، إما عوام جهلة واحلين في رد لخبار وعزيز وبيرام، أو مثقفون رويبضة، لا يعلمون ولا يعقلون..
وأتفه من ذلك كله رجال آخرون لهم أشكال وأزياء المهرجين، يحكمون بلدان المسلمين بقوة السلاح، أنتجوا للأمة مسوخ من القوميين العنصريين الذين يسعون إلى إقامة خلافة عربية عنصرية بدل الخلافة الإسلامية الراشدة، فما أبعد ضلالهم..
أو إرهابيين، يفجرون الناس حمية للدين، والدين لا يقتل الأنفس الآمنة المسالمة بل يحرم البطش بها، ويتوعد فاعله بالعذاب الشديد، والعياذ بالله..
ومع ذلك فمن حكمنا – من هؤلاء- نرضى به، ونكله إلى خالقه، لا نثور عليه، ولا نسخط، لأننا نعلم أن دوام الحال من المحال، وأن الذي أتى به سيذهب به، وأن من أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، والويل له من ثقل المسئولية إن كان خائنا، أعاذنا الله وإياكم – إن لم تكونوا من أهل السياسة- من تلك الوظيفة التعيسة التي يتسابق إليها البعض في هذه الأيام، فالسلامة، والمسئولية الخفيفة، والزوجة العادية التي لا ترى إلا في ظلام الكوخ، خير منها..
مع "المسار الحانوتي":
أضحكني العنوان أولا، لأن التجارة هي الغالبة على بلدنا، ومن – منهم – بعيد عن المسار الحانوتي..
وكتب الكاتب: "وددت لو أن هذا المقال تناول أهم حدث وطني عرفته موريتانيا منذ نشأتها بل العالم العربي برمته : التخلي الطوعي لرئيس الدولة عن سدة الحكم"..
إذا كان هذا هو أهم حدث – ولن يحدث إن شاء الله -، فعلى بلدنا السلام إذ لم يعرف شيئا مهما منذ نشأته المزعومة..
إن ما يظهر من كلمات الكاتب هو أن الحكم والسيادة هما أهم ما يؤرقه، وإلا لما كانت سلسلة مقالاته هذه رأت النور، فمن نصدق: الرئيس أم الوزير؟
قال الكاتب: "وتوبة نصوحا، تكفيرا"..
من أهم ما لاحظت في كتاباته الجميلة: دمج كلمات الحديث والقرآن في مسائل تافهة من سياسات نواشكوط التي ليست بسياسات دين ولا دنيا، بل ديمقراطية منافقة بلا فائدة، على الأقل حتى الآن..
وودت في كل مقال أقرؤوه له ألا تقع عيني على مثل تلك العبارات الباردة في مثل تلك المواقف السخيفة، كقوله "توبة نصوح"!
هذا مصطلح شرعي يستخدم أساسا للذنوب، وإلصاقه بالرئيس خطأ كبير لأن إثبات انه مذنب باستيلائه على الحكم يحتاج إلى نظر ودليل..
ويكفي لتفهم قصدي أن تتدبر في قوله: "معذرة إلى الله ولعلهم يتقون وتوعية وذكرى لشعبنا المظلوم"، ما هذا؟ آية؟!
لقد قرأت للكاتب كثيرا من أمثال هذه العبارات، وفي جعبته الكثير منها والحمد لله – مما يدل على تغلغله في الدين-، فلو كانت هذه الكتابات في مجال الدين، مقالات تتحدث عن الله ورسوله، لكانت تلك هي اللغة التي تطرب المؤمنين في ظل هيمنة مقالات السخف والغباء على مواقعنا وصحفنا، والتي لا تتحدث إلا عن تعساء هذه العاصمة من المتبرمين الساخطين والمنافقين..
استطراد:
دائما ما أتساءل: كيف يعيش أغنياء هذا البلد فيه؟ ما فائدة الحصول على كل أموال الدنيا إذا كان الواحد ينام في نواكشوط ويصبح فيها؟ أين سيجد مصرفا لأمواله؟ إن مثل الغني في هذا البلد كمثل قارون وأمواله في صحراء لا بشر فيها..
ففي نواشكوط لا يمكنك أن تجد قطعة سندويتش تأكلها باطمئنان، ولا مكانا ترتاح فيه غير البحر والخلاء، كل ما يتوفر من وسائل الترفيه هو ثرثرة لا متناهية في الأسواق والدكاكين والمكاتب والطرقات، لا أقل ولا أكثر..
قال الكاتب: "المشهد الأول.."..
تحول المقال إلى فيلم سينمائي سأناقشه في الحلقة التالية، إن لم أنسى..