أحد أسباب تعثّر المعارضة في بلادنا ناتِجُُ - حسب رأيي المتواضع - عن اهتمامها الحصْرِي بالسياسة، و السلطة، و الحكامة، و الديمقراطية، و ما إلى ذلك...و عدم اكْتِراثِهَا بِمُعاناة الشعب، و ظروفه المعيشيّة الصّعْبة
ونضاله الدّائم لتحسينها و تغييرها إلى الأفْضَل. و هذا غلط فادِح، لأنّ الحركات الشعبية الكُبرى لا تتفجّر- في الغالب - إلاّ و مِنْ خلْفِها مُسبّبات اقتصاديّة و مَعيشِيّة تَدْفع الجماهير لتَخْرُج و تتظاهَر و تَعْتَصِم و تُكافِح... بمَعْنَى أنَّ هناك ارتباطا علميّا مُثَبّتا بين التحَوُّلات السياسية العظيمة و سوء الأحوال الاقتصادية و الاجتماعية. و كلّ التجارِب القديمة و الحديثة تُشيرُ إلى ذلك...
في تونس مثلا، مهْد الثورات العربية الحديثة، ذلك الشابّ - البوعْزيزي - الذي أحرق نفسَهُ : هل أحْرقَ نفْسَهُ لأجْلِ الديمقراطية؟ هل أحْرَقَ نفْسَهُ للدفاعِ عن حريّة ؟ أم حرَقَ نفْسَهُ دِفاعا عن دسْتور؟ لا!لا! أحْرَقُ نفْسَهُ احْتِجاجا على منْعِهِ من كسْبِ قوتِ يوْمِهِ، و دِفاعا عنْ كرامَتِهِ ،،، ليْسَ إلاَّ !!!
و في مصر، فإنّ مطالب 6 ابْريل في بداية الانتفاضة كانت شعْبَوِيَّّة و مَطْلبِيّة بامْتِيّاز، منشور دعوة المشاركة في يوم الغضب [ 25/1/11 ] عدّد نقاطا اعتبرها دافعا للمشاركة في التظاهر و الاعتصام،،،و كلّها تدورُ في فلك حاجيّات المواطنين، حيْثُ خاطبَ المواطن المصري، قائلا لهُ :
- هل طُرِدْتَ من عملك؟ - هل تُريد تعليما أفضل لابْنِك؟ - هل أسعار المواد الغذائية مُرتفعة عليك؟ - هل تعتقِد أنّكَ لسْت قادرا على تجهيز ابنتك للزواج؟ - هل أنهى أخوك دراسته للتّوْ، و لا يجِدْ عملا؟ ,,,,,,, إذا اخْرُجْ للشّارِع !!! لأجْلِ هذا خرج المصريّونَ بالملايينْ، آملينَ في حيــــــــــــــــــــــــــاة أفْضـــــــــــــــــــــــلْ، و لأجله ردّدوا، و هتفوا بمطالبهم المعيشيّة...غيْر أنّ مسارَ الأحداث خلق، شيئا فشيئا، صورة ذهنية لدى الحشود رَبَطتْ ما بَيْنَ رحيل مُبارك و تحسُّن الأوضاعْ الاقتصادية و المعيشية...و نتيجة لذلك، ارْتفع سَقْفُ المطالِب من المعيشي إلى السّياسي.
أمّا عندنا هنا، فالحالة معكوسة تماما...نضع "السياسة" في المقام الأوّل، و لا نعبأ كثيرا بالمطالب المباشرة للشعب... و لذلك، تجِدُ المعارضة في واد... و الجماهير الشعبية في واد آخر. المعارضة تطلب الديمقراطية و تداول السلطة...و الشعب يطالب بتحْسين ظروفه المعيشية : عمال "الجُرْناليه" في ازويرات و انواذيبو،،، و عمّال م.س.م. في اكجوجت،،، و عُمّال تازيازت،،، و الحمّالون في الميناء،،، و كوّاس حامل شهادة،،، و الأساتذة و المعلّمون،،،و سكّان أحياء التّرحيل،،،و المشاكل العقارية في الضفّة، إلخ...الاحتجاجات في كلّ زمان، و اللافتات مرفوعة في كلّ مكان...و لكنّ الرّبْطَ بيْن مصالح الشعب اليوميّة، و مطامحِ النخبة السياسية مفقود.
لهذه الأسباب، أقْتَرِحُ مراجعة المسار و تصويب بَوْصَلَتِهِ حتّى تكون المطالب الشّعبية في المدن، و الأرياف، و القُرى، و المدارس، و المصانع، إلخ... هي الدّافع االمُباشِر و المحرّك الرّئيسي للساحة الوطنيّة، مع مواصلة الجهود السياسية لإنهاء الحكم العسكري و إرساء نظام مدني ديمقراطي. و في هذا السياق، و مؤازرة للحراك الشعبي في العاصمة و الدّاخل، لماذا لا يتمُّ استخدام كلّ الطرق السلمية و الديمقراطية التي يكفلها الدستور للتعبير و الاحتجاج، بما فيها حقّ الشعب في الاعتصام السلمي في ساحاته العمومية،،، و الاستعداد للدّفاع عن ذلك الحق الذي أهدرته أحزابُ المعارضة طوال السّنين الماضية، و تخلّتْ عنْهُ لأسباب .... الله أعْلمُ بهــــــــا؟