فكر الشنقيطي: من البنا حسن ..... إلى البنا جمال (1)
ألما بمعن ثم قـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــولا لقبـــــــــــــــره ... سقتك الغـــــــــــــــــــــوادي مربعاـــــــً ثم مربعا
فيـــــا قبر معنٍ كنـــت أول حفــــــــرةٍ ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا
ويـــــا قبر معن كيـــف واريت جوده ... وقد كــــــان منه البرّ والبحـــــــــــــر مترعا
ولكن حويت الجـــــــود والجود ميّتٌ ... ولو كان حيّاً ضقت حـــــتى تصدّعا
وما كان إلا الجـــــــود صورة وجهه ... فعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاش ربيــــــــــعاً ثم ولّى فودّعا
فلما مضى معنٌ مضى الجود والندى ... وأصبح عرنـــــين المكــــــــــارم أجدعا
هذه الأبيات للحسين بن مطير وقد وصفها أبو هلال العسكري بأنها أرثى ما قيل في الجاهلية والإسلام، وهي في رثاء معن بن زائدة الشيباني القائد الذي تربع على شواهق السماحة، ورسا على قمم الحلم والشجاعة، وإذا كان لمعن هذا لسان صدق في الآخرين، فإن من الموافقات الغريبة أن يكون له شريك في اسمه واسم أبيه على ندرة هذا الاسم، وألا يحفظ التاريخ كثيرا من أخبار هذا السمي وأن يكون أبرز ما حفظ من أخباره ما روي عنه من أنه: زور كتابًا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونقش مثل خاتمه، واستولى على بعض المال من الكوفة، فجلده الخليفة العادل صاحب الموافقات القرآنية مائة سوط، ثم شفع له قوم، فقال: أذكرتنى الطعن وكنت ناسيًا، فجلده مائة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى ثلاث مرار.
وقد ذكرني بقصة معن بن زائدة المغمور لا المشهور مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنني كتبت تدوينة عن الأستاذ محمد المختار الشنقيطي فعبر بعض الإخوة الأعزاء الأجلاء عن استيائه منها، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فذكرني بما بيني وبين الشنقيطي، وهو أمر أدركه أكثر منه، غير أنني آنست خلف الانتصار للشنقيطي نوء خطر تلمع بروقه وتقصف رعوده فتكاد تهمع هوامعه لتعقب سيلا ذا تيايير يجرف بعض الإخوة إلى عوالم لا تبقى من صحوة الإخوان غير التاريخ والاسم، ولا من منهج القرآن غير التلاوة والرسم، فذكرت الطعن وكنت ناسيا.
لا أظن أنه يمكن أن يدافع عن الشنقيطي اليوم في أكثر مواقفه الفكرية الأخيرة غير أحد ثلاثة:
- الذين لا يعرفون الحق بالحق، بل يعرفونه بالرجال، فما صدر عن فلان لا يمكن إلا أن يكون صوابا، أو هو في أسوأ الأحوال اجتهاد خطأ لصاحبه أجر الاجتهاد، لكن أفكارا دون تلك الأفكار بمسافات لو صدرت من غير ذلك الشخص لكانت من الضلال البين، أو الجهل القبيح، أو الاستلاب المقيت، وهذا لعمري أبعد ما يكون عن نهج الإسلام ومبادئ الصحوة، يقول الإمام المرشد الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى: "وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه, و إلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالاتباع" رسالة التعاليم مجموع رسائل البنا ص 226.
- أن يكونوا جاهلين بحقيقة أقوال الشنقيطي مما سنبين بعضه لا حقا، وتلك مصيبة منكية: أن تأتم وتوالي من لا تواكب تطور فكره، في زمان تعرض فيه الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، بكرة وأصيلا، فما أعظم الفرق ما بين الشنقيطي اليوم، والشنقيطي يوم قال:
خلِّ النعـاس وصــــــلِّ ** لربك الـمتجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِّي
وانضح مُـحيَّاك ماءً ** يغـزو الكـــــــــــــــــــــرَى فيـولي
ضاع الزمان بنــــــــــــــوم ** فانهــــــــــــــــــض لرب أجــلِّ
والـهجْ بتسبيح فكرٍ ** ونجــــــــــــــــــــــوة وتـمـــــــــــــــــــــــــــــلِّ
وانظر خيوط ضيـاءٍ ** عبر الدجى المضْمـحِلِّ
هذا الصباح مُغِيـــــــرٌ ** وذاك ليــــــــــــــــــــــــــــلٌ مُــوَلِّ
روض الأخـوة نادى ** فانعـم بمـــــــــــــــــــــــــاء وظـلِّ
واقطف ثماراً لـــــذاذاً ** من دوحـه الـمتـــــــــــــدلِّي
أخي زحوف الأعادي** حلَّـت بقلب المـحلِّ
وموكب النور يحـدو ** جند الصبـــاح المــطلِّ
فانفرْ إليـه خفيــفا ** على الجــــــــواد الـمُجَلِّي
لئن تـخـلَّى أنـاس ** ما أنـت بالمتــــــــــــــــــــخلِّي
حينها كان يرتع ناعما بماء وظل الأخوة الإسلامية، قاطفا من لذيذ ثمارها، أما اليوم فلا يرى تلك الأخوة مناسبة كأساس لقيام الدولة، يقول في مقال الناس على دين دساتيرهم: "إن بناء الدول على أساس من قانون الفتح والتضامن العرقي (كما كان الحال في الإمبراطورية الرومانية والمغولية)، أو على قانون الفتح وأخوة العقيدة (كما كان حال الإمبراطورية الإسلامية) لم يعد مناسبا أخلاقيا، ولا ممكنا عمليا"، وهو اليوم يرى "أن الإسلاميين والعلمانيين يسعون في الغالب إلى نفس الغايات الدنيوية، لكنهم يعبرون عنها بلغات مختلفة" من مقاله "هل تصلح الثورات بين الإسلاميين والعلمانيين" فالخلاف بين الإسلاميين كما يريدهم الشنقيطي وبين العلمانيين خلاف لفظي صوري إنه خلاف في حال وحين ما يكون الخلاف بين أمرين صوريا أو لفظيا أو خلافا في حال يعني أنهما بالتعبير المعاصر وجهان لعملة واحدة.
- أن يكونوا عالمين بدقائق فكر الرجل غير أنهم يوافقونه في ما يرى، وتلك أنكى وأنكر، لأن بعض تلك الأفكار عند التمعن قد يوجب المفاصلة الفكرية عند أكثر الناس اعتدالا، أما لدى المتطرفين فهو موجب المفاصلة الجهادية على حد تعبيره هو حديثا.
وقد كانت خلاصة ما تفضل به الإخوة في ما آلمهم من تدوينتي، أن للرجل سابقة في الدعوة، وأن العبارات كانت قاسية، وأنه مسبوق من أجلاء في كل ما ينقم منه، وأنه مفكر إسلامي، يخطئ ويصيب، فكان الأولى التمثل ببيت ابن الحسين يوم سمع حفيفا من نبل غلمان أبي العشائر في محاولة اغتياله:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا ** فأفعاله اللائي سررن ألوف،
وسيكون جوابي على شاكلة جواب الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذكروني الطعن وكنت ناسيا، رغم أنني أتألم كثيرا مما يؤلم أي شخص، لا سيما إذ اكان المتألم أشخاصا مميزين بحق، وأعزاء بصدق، لكن الحق أحق أن يتبع.
أولا: السابقة الدعوية:
قال المستاؤون من نقد الشنقيطي: إن له سابقة في الدعوة، وتلك لعمري مزية عظيمة، ومنقبة شريفة، وما أحسن أن نحفظ للأكابر منازلهم، ونقيل لهم عثراتهم، فذلك مقتضى نصوص الشرع، وفحوى السليم من الطبع ،بيد أن لي عند هذا العتب وقفتين:
1- أن بعض الذين استاءوا من نقد الشنقيطي يتناولون شيوخا هم منه في الدعوة أقدم، بثلب أشنع، وقدح أفظع، بسبب انتقال مدرسي، أو تحول في موقف سياسي، أو تشبث بفتاوى فقهية قد تعد متجاوزة، أوضعيفة المدرك، وتلك أخطاء إذا جعلت في كفة، وجعلت خطايا الشنقيطي الفكرية في كفة، فستشيلها بشدة، إذ الخطأ في لأعمال والآراء الفقهية يبقى في حيز الأخطاء، أما الأخطاء الفكرية البالغة فترتقي إلى الخطايا، وانتقاد الخطايا أولى من نقد الأخطاء.
وقد كنت قبل أيام أرسلت في تدوينة رسالة إلى علمائنا من ذوي المناصب، حملت نقدا مبطنا، لا يخفى موجبه، ولا مستوى إحراجه، ولم ألق انتقادا من أحد من إخوتي المتألمين اليوم، فالتألم إذن ليس انتصارا للسابقة ولا للمبدأ، بل هو انتصار للشخص، مما يعني أننا للأسف لا تهدم يد منا صنما إلا امتدت أخرى لننحت صنما على أنقاضه، فمتى ستظل أمة التوحيد أمة الأصنام؟.
2- أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، والسابقة لا تمنح صك الغفران، والعبرة بالخواتيم، ويتذكر أولئك العاتبون علي انتقاد الشنقيطي كم من معاد للدعوة اليوم كان من ذوي السابقة والقيادة إلى الوقت القريب، وما كمال الهلباوي ومحمد حبيب إلا نموذجان من أقرب النماذج تاريخا، وأعظمها عبرة، وربما كان من يعلن التمايز أخف ضررا ممن يتمايز عمليا بخرق الضوابط والمنطلقات في صمت، ووجه الخطر أن بسطاء الأتباع ينظرون إلى أقواله من خلال قائلها وإلا تقنعهم فإنها تحدث عندهم اضطرابا فكريا شديدا، وأن الخصوم يتلقفونها فلتات قاتلة معتمدين على ركن شديد "وشهد شاهد من أهلها".
ثانيا: القسوة:
لا يكاد ينقضي عجبي ممن يرون القسوة في تدوينة لم تعد أن أبانت مستوى المزاجية والاضطراب الفكري على صفحة في أقل من يوم وليلة، وهي فترة لا تسمح بمثل هذا الانقلاب الفكري العميق، ويغضون الطرف عن قسوة الشنقيطي على الصحابة رضي الله عنهم ورضوا عنه بحجة قداسة المبدأ، يقول في كتابه الخلافات السياسية بين الصحابة ص 33 بشأن خالد بن الوليد: "لكن قوته الطاغية على أمانته هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر قتله قوما أظهروا الإسلام، ويتبرأ إلى الله من فعله" ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان فكيف يقر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف الأمانة على قيادة الجيوش؟ وكيف لا يعاقب من أتى بجرم فيه قتل النفس التي حرم الله إلى بالحق؟ وما غر الأستاذ هو براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما فعل خالد، وفاته أن الأنبياء يستغفرون الله من الخطأ الذي لا إثم فيه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير» رواه مسلم وغيره، ولو كان ما عمله خالد عمدا وقصورا في أمانته لكان النبي صلى الله عليه وسلم مقصرا في عدم محاسبته، إذ هو القائد العام والمسؤول عن أخطاء قواده ومحاسبة القوي أولى من محاسبة الضعيف، وقد كان يعزل القواد بأهون من هذ،ا كما في قصة سعد بن عبادة يوم الفتح.
أما معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاصي فقد أمعن جدا في أكثر من موضع من الكتاب في الإساءة إليهما، يقول في الصفحة 35 "لو كتب عن موضوعات تدخل في نطاق الأمانة مثل الشرعية السياسية، أو العدل في القسم والحكم، أو الزهد في الولايات العامة، وعدم الإيثار أو الاستئثار بها.. لوجد لدى تلك الشخصيات ذاتها ما يستحق النقد حقا لا ادعاء".
ولم تقف هذه القسوة عند حدود الأشخاص بل تعدت ذلك إلى التاريخ الإسلامي فقال في مقاله الناس على دين دساتيرهم: "نشأ الفقه السياسي الإسلامي مطبوعا بطابعين يحسن فهمهما. أولهما، أنه ينتمي إلى عالم الإمبراطوريات لا عالم الدول. وقد لاحظ الفيلسوف الألماني هيغل أن "المواطن الحر الوحيد في الإمبراطورية هو شخص الإمبراطور".
لذلك لا عجب أن كان تركيز فقهائنا في الماضي على هذا "المواطن الحر" وما يتسم به من صفات -أهمها الإسلام- أكثر من تركيزهم على ركام العبيد المحيطين به.
وثانيهما أن العقد الاجتماعي الذي انبنت عليه الإمبراطوريات القديمة، ومنها الإمبراطوريات الإسلامية المختلفة (أموية وعباسية وعثمانية) تأسس على قانون الفتح وأخوة العقيدة لا على المساواة بين مواطنين أحرار" وسنعود إلى هذه الفقرات لاحقا بإذن الله.
وإخراج الدولة الراشدية من ما بين القوسين في قوله: الإمبراطوريات الإسلامية المختلفة (أموية وعباسية وعثمانية) لا يخرجها من الحكم لأن العلة الجالبة للذام عنده هي قيام الامبراطورية على الفتح وأخوة الدين وتلك متحققة في الدولة الراشدية بالأولى فهو ذم للتاريخ الإسلامي كله.
وأما الفقه السياسي على حد تعبير الشنقيطي فهو: "فقه بائس، وسقفه واطئ جدا في مجال الشرعية السياسية، والحريات العامة، والمساواة بين المواطنين" من مقال "هل تصلح الثورات العربية بين الإسلاميين والعلمانيين".
أما الفقهاء حسب الشنقيطي فملتفون على النصوص رافضون الحكم بها صناع المصائب الفقهية، يقول في مقاله قصة العبودية في كتب المالكية الحلقة الأولى: "ولكي يتبين الفرق الهائل بين الشريعة والفقه في هذا المضمار أقتصر على مثالين: أولهما التفاف الفقهاء على مسألة المكاتبة لتحرير الرقيق، والثاني رفضهم المساواة بين الحر والعبد في حق الحياة الذي هو أصل كل الحقوق وأقدسها. وكلا الأمرين من المصائب الفقهية الكبرى في التاريخ الإسلامي"
ولسنا هنا بصدد ترجيح أي مذهب فقهي حول المسألة وإنما نقصد الاستشهاد بمستوى القسوة التي انتهجها الشنقيطي مع فقهاء الملة
وتلك شذرات تكفي للدلالة على أن القسوة بعض سلاحه الذي لا غرابة في أن يرتد عليه حينا
وإن التي فينا زعمت ومثلــــــــــــــــــــــــــها ** لفيك ولكــــــــــــني أراك تجـــــــــــورها
تنقذتها من عند وهب بن جــــــــــــــابر ** وأنت صفي النفس منه وخيرها
فلا تجزعن من سنة أنت ســـــــــــــــــــرتها ** فأول راض سنة من يسيــــــــــــرها
فهل انتقاد من ذلك بعض كلامه أعظم من انتقاد الصحابة رضي الله عنهم وتاريخ الأمة واتهام الفقهاء بالتحكم في الشريعة لا تحكيمها؟ أم أن المسافة بين منتقديه وبينه أوسع مما بينه وبين الصحابة؟ وهل وصف فكره بالغرابة الذي سنسوق براهينه تحامل، ووصفه هو للتاريخ والفقه السياسي الإسلاميين بما يضاهي أقوال غلاة الباحثين الغربيين تفكير وموضوعية؟
يتواصل