وقعت الحكومة المالية و ثلاثُ حركاتٍ أزوادية هدنةَ بوساطةٍ من الرئيس الموريتاني،محمد عبد العزيز،الرئيس الدوري للاتحاد الإفريقي. استوقفتني في الموضوع الملاحظات التالية:
تتطلبُ الوساطة عادةَ أوراقَ ضغط في يد الوسيط يُسلطها على الفرقاء لدفعِ كل واحدٍ منهم إلى تقديم تنازلات تسمحُ بلقاءِ الجميع في المنتصفْ. ما هي إذا أوراق الضغط التي يمكن لولد عبد العزيز أنْ يسلطها على الأزواديين أو الحكومة المالية؟
الراجحْ أنَّ ولد عبد العزيز تحركَ وفقَ الرؤية الفرنسية المستندة إلى الغطاء الإفريقي.لنا أنْ نتساءل كم عمر الأزمة المالية؟و لماذا لم يُبادر ولد عبد العزيز قبل الآن إلى التوسط فيها؟؟ مع أنَّ هذا البلد كانت تُمزقه حربٌ أهلية طاحنة و يحيقُ به تهديدُ تنظيم القاعدة.والحال هذه ألم يكن الوضع أدعى إلى الوساطة من الآنْ؟
على الأقل قطعا للطريق على تنظيم القاعدة الذي يُفترضُ أنهُ التهديد الأكبرْ. لم يكن الرجل،في السابق،يتمتع بصفة الرئيس الدوري للإتحاد الإفريقي،التي تُؤهله للعبِ دورِ الوساطة و نقلها من الإطار الإقليمي (المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية) إلى الإطار القاري الذي هو الاتحاد الإفريقي.
يرى الفرنسيون أنهم سددوا للقاعدة ضرباتٍ قاضية في شمال مالي،و بالتالي فقد زال الخطرُ الأهم.أما القضية الأزوادية فحلها ليس ذا طابعٍ استعجالي،و سرُّ الاهتمام بها اليوم مرتبط بما تُرتبه بالنسبة لإمكانات إعادةِ انتشارِ القوات الفرنسية في المنطقة.
في الأسبوع الماضي،احتضنت باريس قمة فرنسية افريقية مصغرة خُصصت للتحدي الأمني في جنوب منطقة الساحل و تحديدا نيجيريا،و ذالك في ضوءِ تواتر هجمات حركة بوكرحرام.بدت الحكومة اليسارية الفرنسية منزعجة من مبادرةِ الولايات المتحدة إلى بعث فرقٍ جوية و برية للمساعدة في البحث عن التلميذات المائتين المختطفات على يد بوكوحرام،و تُستشفُّ حساسية الحكومة الفرنسية في ردَّ وزير الخارجية،لوران فابيوس،على نظيره الأمريكي، جون كيري،بالتأكيد على أنَّ فرنسا تدعمُ هي الأخرى الحكومة النيجيرية في عمليات البحثْ.و كان كيري قد قال إنَّ الولايات المتحدة هي الوحيدة التي تشارك في جهود البحث.انتهت قمة باريس إلى إقرارِ توسيعِ و تعزيزِ دائرة محاربة بوكوحرام،و هنا كان حضور الرئيس أتشادي لافتا،و هو صاحب الدعم الحاسم في معارك مالي،و قدَّمت قواتُه تضحياتٍ بشرية مصيرية في المعركة،لم يكن متاحا تقديمها من الجنود الفرنسيين بالنسبة لرئيسٍ فرنسي يُكابد سخطا شعبيا متسعا ترجمته بصدق نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة التي مُني فيها اليسار بخسارةٍ تاريخية ضيَّعَ معها معاقل ظلَّت وفية له منذ أكثرَ من قرن. تبدو فرنسا في أمس الحاجة إلى قواتها المرابطة في مالي في استشرافِ آفاقِ الساحل الجنوبية الغنية بالنفط،كما أنَّ الجهد الحربي في إفريقيا الوسطى هو الآخر بحاجةٍ إلى الدعم على نحوٍ عاجلْ. و في مقابل ذالك، فإنَّ أيَّ انسحابٍ غيرِ محسوبْ من شمال مالي قد يُعيدَ الأمورْ إلى ما كانت عليه ربيع 2012. أي بمعنى آخر سيطرة الطوارق على الشمال،ما يُفسح المجال أمام عودةٍ ''ظافرة'' للقاعدة و شقيقاتها. و على مدى أبعدْ، يبرزُ إشكالٌ آخر هو إمكانية لجوءِ عناصر بوكوحرام-في ضوءِ حملةٍ محتملة-إلى شمال مالي و اتخاذهِ ملاذا جديدا. و في المحصلة ستكون حملة 2012 قد أتتْ بنتائج عكسية تماما. من هنا، تبرز الحاجة إلى ترتيب البيت المالي عن طريقِ هدنٍ تُرتَّبُ هنا و هناك وفقَ مناهج قريبة من تلك التي كان الراحل العقيد معمر القذافي، يمارسها مع حركات التمرد في إفريقيا و في أزواد تحديدا، إذ كان يشتري من بعض القادة الأزواديين السلامْ بامتيازات مالية هائلة. و لنا في هذا المضمار أنْ نتذكر الراحل إبراهيم أغ بهنغا، و قبله إياد أغ غالي، و أغالي ألومبو و غيرهم كثيرون. هكذا إذن، وجد ولد عبد العزيز نفسهُ في المكان المناسب لتنفيذ هذا الجزء من الرؤية الفرنسية لا أقلَ و لا أكثرْ. باختصار ليس لولد عبد العزيز ما يُقدمه للماليين، و بالعكس لديه ما يُقدمهُ لبعض القيادات القادرة على إنتاجِ سلامٍ مزيفْ شبيه بمصالحةِ داكار الأثيرة بين فرقاء الأزمة الموريتانية. و على ذكرِ مصالحة داكار لا بد من التذكير بأنَّ حكومة نيكولا ساركوزي كانت مسكونة بالتحدي الأمني في الساحل، و كانت ترى في سيدي ولد الشيخ عبد الله رئيسا ضعيفا غيرَ قادر على مواجهة الخطر الأمني في الساحل. بقية القصة تعرفونها، فقد تنصلَ واد و الفرنسيون و من معهم من اتفاق داكار، و لم يُكلفوا أنفسهم متابعة استحقاقاته اللاحقة على الرئاسيات. لقد تحققَ الهدف، و هو دعم النظام العسكري الجديد في تثبيت أركانه، على أنْ يدفع ثمن ذالك من مواقفه الإقليمية و مقدراته الداخلية في المستقبل. و عودة الشركات الفرنسية إلى قطاعي النفط و التعدين في موريتانيا شاهدة على ذالك. و إذا تذكرتم جيدا ستُدركون أنَّ واد كان يومها يسلكُ منعطفا حاسما في عزلته السياسية المضطردة التي ستنتهي بهزيمتهِ في رئاسيات 2012. فقد كان يومها يُعدُّ لقانون ''خلقِ منصب نائب الرئيس'' و ذالك في أفقِ ترشيح إبنهِ كريم لهذا المنصب تمهيدا لتوريثهْ. ولد عبد العزيز هو الآخر يسلكُ اليوم منعطفا شبيها، فهو يُنظم انتخاباتٍ رئاسية شبيهة بانتخابات عبد الفتاح السيسي و بشار الأسد، و الغريب أنَّها كلها تجري في شهرٍ واحد. تُقاطع المعارضة الانتخابات بما فيها تلك التي شاركت في استحقاقاتٍ سابقة، و كان النظام يَعتدُ بمشاركتها و يُدلَّلُ بها على نزاهة الاقتراع. اليوم، و في غيابِ أيَّ مكسبٍ داخلي، يجدُ ولد عبد العزيز في الوساطة بين الفرقاء الماليين متنفسا من واقعٍ مصطرع بالعزلة و الخيارات المزدحمة التي لا تتفاوتُ إلاَّ في سوءها.