أشرف الرئيس الدوري للإتحاد الإفريقي علي توقيع أطراف النزاع في كيدال (شمال مالي)هدنة تقضي بوقف مؤقت لإطلاق النار والتوجه إلي المفاوضات السلمية لحل النزاع القديم بين الشمال والجنوب المالي .
وللتذكير فإن هذا النزاع هو جزء من التركة الثقيلة التي خلفها المستعمر الفرنسي لأنظمة الحكم الإفريقية والتي أصبح المستعمر يديرها من بعد ويوظفها في سياسة الهيمنة والاستعمار الجديد ..ولا يزال الأفارقة يلعبون نفس الأدوار التي يرسمها لهم الأجنبي . و لا تزال أنظمة الحكم في الدول الإفريقية عاجزة عن حل مشاكلها من جذورها ..فما هو الدور المناسب والمشرف للحكومة الموريتانية في الأزمة المالية ؟ وهل الخطوة الأخيرة للرئيس الموريتاني :إنجاز تاريخي أم انحياز لإرادة الأجنبي ؟
لابد من التنبيه إلي أننا لا نتبنى في هذا التحليل موقفا سياسيا مؤيدا أو معارضا ولا أهمية – في نظرنا- للتوظيف الإديولوجى ، مهما حاول صاحبه أن يستغل الأحداث لتبرير مواقفه السياسية سواء كان مواليا أو متملقا ، معارضا أو مناوئا متعصبا .
قطع الرئيس الموريتاني زيارته الى كيغالي وغير برنامجه وتوجه بشكل فوري واستعجالي إلى باماكو .. وبعد محادثات مع الرئيس المالي ( الذي كان غاضبا من عدم استجابة موريتانيا لطلب قدمته لها دولة مالي في وقت سابق بالمساعدة في تحرير أرضها من الحركات الإسلامية المسيطرة حينها علي الشمال كله ). وأعلن عن وساطة يقودها رئيس الإتحاد الإفريقي الرئيس الموريتاني بين حكومة باماكو وحركات تحرير آزواد ، ثم جاءت البشارة بنجاح الوساطة وخرج الرئيس المالي ليقول : (إن الرئيس الموريتاني من أبرز الرؤساء الأفارقة ..وإن رئاسته للإتحاد الإفريقي مستحقة ...).
إقليم آزواد : هو المنطقة الممتدة من ولاية كيدال في الوسط المالي إلي الحدود الجزائرية ومن نهر النيجر قرب تمبكتو ومن فصالة - ليرة في موريتانيا . وتسكن هذا الإقليم عدة مكونات عرقية وقبلية أهمها وأكثرها عددا – العرب بكل طوائفهم (لبرابيش و قبيلة كنت و جميع القبائل المعروفة في صحراء الملثمين) و- الطوارق وهم قبائل بربرية تتحدث لغة (التماشق)وينتمي أغلبها للحضارة الإسلامية ومن بينها مجموعات وثنية ،لايكية قليلة العدد و- القبائل الزنجية وهي كثيرة وأقلها عددا قبيلة البنمبارا المنتشرة بكثافة في الجنوب .. هذا الإقليم ظل يعيش في تداخل وتمازج كبير مع الشعب الموريتاني حتى أصبح الفصل بينه في دولتين مستقلتين (دولة مالي ودولة موريتانيا ) أمرا مستحيلا مما دعا القيادتين التاريخيتين للشعبين الموريتاني والمالي علي التوالي ( المرحوم الأستاذ المختار ولد داداه و الرئيس المالي السابق موديبو كيتا ثم موسي اتراوري الذي خلفه في الرآسة ) إلي ترك الحدود مفتوحة بين البلدين ولم ترسما إلي يومنا هذا ولا يمكن لحد الآن تمييز فئات من المواطنين الماليين عن أقربائهم الموريتانيين ..
إن المستعمر الفرنسي حرص علي ترك قنابل موقوتة داخل حدود الدول الإفريقية المستقلة حديثا عن نفوذه المباشر وذلك من أجل ضمان سيطرته المستمرة علي أنظمة وشعوب تلك الدول .. و لاتزال أنظمة الحكم الإفريقية غارقة في الصراعات بسبب مخلفات الاستعمار الغربي ويعمل الغربيون علي إذكاء النزاع ودفع مختلف الأطراف إلي الاشتباك بينها حتى تضمن لنفسها فرصة التدخل من جديد وإعادة نفوذها المباشر علي تلك الكيانات الضعيفة والممزقة ....
وإذا تناولنا الآن الموقف الموريتاني علي ضوء هذه المعطيات لكان بالإمكان استنتاج مايلي:
- إن موريتانيا حكومة وشعبا معنية بدرجة أولي بالنزاع بين الجنوب والشمال المالي بحكم انتماء شعب الشمال للنسيج الاجتماعي الموريتاني بكل فروعه ..
- إن النظام السياسي الموريتاني يعاني من مخلفات استعمارية مشابهة في الجنوب، تطل برأسها من حين لآخر وتغذيها نفس الأطماع الخارجية ..
- إن أي اضطراب أو حروب في دولة مالي لابد أن تكون لها تداعيات خطيرة علي موريتانيا حكومة وشعبا والعكس صحيح .
ولكن كيف نقيم تدخل الرئيس الموريتاني في النزاع المالي ؟
لقد كان لافتا امتناع الرئيس الموريتاني عن تلبية دعوة الشعب المالي في وقت المحنة ،عندما رفض التدخل العسكري المباشر إلا بشروط ، ليس من بينها دوافع المسؤولية التاريخية السابقة وإنما كانت كلها تدور حول بعض المكاسب النفعية للجيش الموريتاني :كالقيادة المستقلة والمؤن والتمويل والتموقع وغير ذلك من المبررات الذاتية
أما في الموقف الجديد فيمكن ملاحظة مايلى:
- إن دولة مالي لم توجه الدعوة للرئيس الموريتاني للتدخل- كما فهمنا من حديث الرئيس المالي- فمن طلب منه ذلك؟
- إن قوات التحرير الأزوادية كانت في موقع قوة ولم يكن أمن الشعوب الأزوادية مهددا كما كان الأمر عند دخول الجيوش الغازية ، وحين استبيحت الأعراض وأريقت دماء الأبراياء أمام أنظار العالم ولم يتدخل وقتها الرئيس الموريتاني ..
- أن سرعة إنجاز الهدنة كانت قياسية ومثيرة للتساؤل :هل قدم الطوارق (خاصة ) عربون مودة للرئيس الموريتاني مقابل دعم مستتر ؟ وقد بدأت بعد الاتفاق معارك طاحنة بين الطوارق و الحركات العربية في أزواد
- أن أسلوب التدخل يعطي الانطباع بأن شخصية الرئيس هي من ذلك الرعيل الأول الذي يحل المشاكل بحكمة بالغة،مما يجعلنا نسأل: لماذا تغيب عن الرجل هذه الحكمة عندما يتعلق الأمر بأزمة بلاده السياسية القائمة ؟
إن وقف إطلاق النار بين الأطراف المالية هو أمر مرحب به في موريتانيا ، لكنه إجراء مبتور من سياق أزمة تعد بلادنا معنية بحلها ومطالبة بالتدخل فيها انطلاقا من مقومات تاريخية وإستراتيجية هامة ..ونحن نتمنى أن تكون لشعبنا قيادة حكيمة تعمل علي حل المشاكل في القارة كلها، وأن ينعكس عملها الشجاع علي الداخل وينتج عنه توجه جديد نحو التوافق السياسي والشفافية في التسيير ومحاربة الفساد وبناء المؤسسات والنهوض بالبلد في كل المجالات ..وأن لا تبقي الخطوة علي مستوي الدعاية الإعلامية في إطار حملة انتخابية لرآسيات غير توافقية من شأنها لو أجريت أن تدخل البلاد في ذات النفق المظلم الذي دخلته الأزمة المالية ...