لقد عودنا عسكرنا، أنه كلما تأزم الوضع، أيقن بعضهم أنها اللحظة المناسبة للانقضاض على الكرسي.
واليوم بهذا المعيار التقليدي المعروف لدى "اصنادره" يوجد انسداد حقيقي، فالعسكري الحاكم لم يستطع تمرير عهدته الثانية في ثوب انتخابي مقبول،
فلم تجد أغلب قوى المعارضة بدا من المقاطعة، وأضحى المشهد السياسي مهلها لا تنقصه ذرة من قلة المصداقية والانكشاف.
والمتتبع للانقلابات في موريتانيا يلاحظ أن أغلبها جاء إثر وحل شديد، فولد داداه الراحل رحمه الله تورط في حرب الصحراء فأدركها ولد ولاته رحمه الله وأسقط عرشه المدني، مستهلا مسلسل الحكم العسكري بموريتانيا، وجاء ولد هيداله بعد صراعات وخلافات شديدة بين العسكر الانقلابين أنفسهم، وعندما ملأ ولد هيداله السجون جاء ولد الطايع، وعندما ملأ ولد الطايع السجن من الإسلاميين جاء انقلاب ولد عيد العزيز وجماعته.
واليوم عندما عجز ولد عبد العزيز عن ستر عورة ديمقراطية العسكر وأراد أن يلعب وحده تقريبا، وفي سرك الرئاسيات بالذات، بعد مقاطعة واسعة للبلديات والنيابيات من قبل المنسقية أوشك أن يأخذه على حين غرة أصحابه المتربصون به على الدوام، كما هو معتاد في لعبتهم، الشبيهة جدا بلعبة القط والفأر.
فهم تحسبهم متحالفون وهم في الحقيقة متحاربون يتابع بعضهم بعضا لاقتناص اللحظة الانقلابية المأمونة،فهم غالبا عندنا يميلون للانقلاب الأبيض.
إن الانقلاب المنتظر لن يأتي بالديمقراطية وإنما سيعمق الأزمة ويمد في عمر النظام المزمن في مسيرتنا السياسية المتعثرة، ولكن حسب أجواء الطقس السياسي عادة حليمة متوقعة بامتياز، وعلى ضوء أنسب الفرص والخرجات الانقلابية.
إن إفريقيا حبلى بالانقلابات، ففي النيجر قبل أيام قليلة أفشل انقلاب، وأما عندنا فأرضنا خصبة لوقوع الانقلابات للأسف، وعادة ما يحاول زعماؤها عند نجاحهم التحول إلى قادة لا يشق لهم غبار، بمجرد أنهم سرقوا السلطة واستولوا عليها بالقوة، وعندها يصدر الفقهاء فتاويهم بحجة التغلب، ويتحرك الساسة والتجار و مشايخ القبائل والصوفية والنساء والشباب وأصحاب الجمعيات الحكومية والمبادرات، للاصطفاف تأييدا ومناصرة وبكاء من شدة الفرح بالانقلاب الجديد، وطبعا في الوقت الراهن لن يعاني أصحاب المبادرات الكثيرة المتوالدة من مصاعب في إظهار التأييد للزعيم المتوقع المجهول حتى الآن، وإنما سيبدلون صورة بصورة، وقد ينسبون كل ايجابيات الوضع القائم ولو قلت للوافد الانقلابي الجديد، وينسبون في المقابل المساوئ للراحل الانقلابي المخلوع.
لا داعي للقلق فكلما اشتدت أزمة انفرجت ولو مؤقتا بانقلاب، ومع مرور الوقت يتضح أن الحاكم الجديد أشد سوءا من سلفه، ثم لا داعي للقلق من وجه آخر لأن السياسة في عرف الأعراب مجرد نفاق وخداع وبحث عن مصالح ضيقة في الغالب، وقصة الأمل و الوعي هدف منشود حلو لكنه بعيد المنال شاق الطريق والسكة، ويكاد يكون في ديارنا مستحيلا.
الكثيرون فهموا هذه الظاهرة على طريقتهم الخاصة، ففضلوا أن يبادروا (ضمن مهزلة المبادرات) تأييدا لمن تغلب وهيمن، وآخرون وليسوا بالقلة اعتزلوا، وشطر غير قليل مازال مجاهدا من الإصلاح، الذي أقل ما يقال عنه أنه شديد الصعوبة وقليل الحظ في هذا الوسط الموبوء بالتملق والتملص من الحياء.
ترى عندما يذاع البيان رقم1 لحركة التصحيح الجديدة غير المستبعدة، من سيتخلف عن مسيرات التأييد والمناصرة للانقلابي الجديد وجماعته من العسكر، طبعا القليل، واعني هنا بوجه خاص من فريق صاحب الفخامة الحالي.
ولن يتردد قادة الحزب الحاكم الحالي في إعلان الولاء للزعيم القادم، فهل سيكون الاتحاد أكثر حظا من الجمهوري أيام الانقلاب على معاوية، الذي دلل الأتباع وفتح خزائن الدولة للمصفقين، وخصوصا المصفقين الكبار، ورغم ذلك كانوا من أول المغادرين لصالة العرض القديمة إلى ساحة العرض والعري والعهر السياسي الجديد المتجدد.
إن بذور النفاق عند البعض لا تكاد تموت، وهي قادرة على التكيف مع أي انقلاب جديد وعهد سياسي جديد، فمن الواضح أن ديمقراطية العسكر قد انكشفت ولم تترك للموريتانيين في مجال السياسة إلا سهولة تبديل الولاء وعقد راية مغايرة لجهة مغايرة على وجه من السرعة والجرأة لا يكاد يتصور أو يستساغ.
إنها المبادرات، التي تحولت إلى وباء يتجول بين جميع الديار والفركان والعشائر والأسر، وأخاف أن تدخل المساجد والمقابر، لتصم آذان المصلين والأموات على السواء بأصوات مكبرات الصوت، الداعية لتأييد وتقديس القائد الملهم.
إن استمرارية حرمان المعارضين من المشاركة السلسلة في تسيير الشأن العام، بجميع أبعاده، واستمرار توقع الانقلابات على وجه غير ضعيف، واستمرار التخلف وشيوع الفقر والبطالة على نطاق واسع متزايد، مع استمرار غني القلة المافيوية المحدودة ،التي تحيط بالنظام العسكري القائم، ذي الواجهة المدنية الهشة، كل هذا الواقع المزري يعطي الانطباع بفشل كبير خطير، قد يهدد يوما بتفاقم الأزمات، وانفلات الاستقرار النسبي من عقاله نحو المجهول.
إن مثل هذا المنعطف يستدعي تكثيف وترسيخ حالة الوعي وضرورة الحرص على تفادي مثل الانزلاقات غير المستبعدة، باللجوء إلى الحوار والتفاهم، عسى أن لا نصبح مسخا من الدول أو المجتمعات لا يستساغ، ولا يمكن قبوله في مصاف الدول والمجتمعات في القرن الواحد والعشرين.
لقد حرم البعض حتى مرض نفسيا وتشوه عقليا وصحيا من شدة الحرمان والإقصاء والحصار، وتوجه الغنى المفبرك بعض المقربين، حتى ملوا شرب اللبن وأكل اللحم الطري وتخزين أنواع العملات وبناء العمارات.
ألا يكفي هذا القدر الهائل من التفاوت الطبقي والاجتماعي سببا لأي تحرك شعبي غاضب، غامض الوجهة والمآل.
إن الحاكم المحروس المنعم، المفعم بأصوات المبادرين المصفقين، المشغول بالمسألة المالية-رغم أهميتها-قبل المعضلة الموريتانية نفسها، قد لا يدرك حر وألم قرصة الحرمان والمعاناة والتضييق على أرزاق الناس ومصالحهم الأولية الاستعجالية.
لمثل هذه الأسباب غاصت بلادنا مرات في الوحل، فانتهز العسكر مرارا أزماتها للاستحواذ على حكمها وثرواتها، ولمثل هذه الأسباب المتأزمة غرقت شعوب مجاورة في الدم والنزاعات حتى قبلت بوساطة ولد عبد العزيز، مكرهة راغبة في بصيص أمل للخروج من ورطتها المزمنة.
إن من أهم دوافع الكتابة لدينا عن مثل هذه المخاطر الانقلابية الملبدة في الأفق بسبب التأزم المتواصل، هو الإشفاق من هذا الانحدار المستمر، فهل يدرك عقلاء النظام -إن وجدوا- مثل الدوافع والمشاغل المشروعة الصادقة.
إننا نكرر رفضنا للانقلابات وجميع صور العنف، المنافية لسبل التغيير السلمي الراقي، لكن ما نتحدث عنه ما قد يفرضه ويمليه الواقع دون استشارة أحد، فهل ننتبه قبل فوات الأوان؟.
كل هذه المؤشرات تعطي الفرصة الواسعة لأي مؤامرة انقلابية جديدة، لأنه سيجد ما يقوله، دون أن يكون كاذبا، سوى أنه تتسلق عرش السلطة بطريقة غير مشروعة، بحجة هذه الأزمات الكثيرة، الواضحة للعيان.
ومثل هذه الخطابات تدعو النخبة للخرس والسكوت على الانقلاب، فهي بطبعها خرساء، فمن باب أولى إذا كان الحديث الانقلابي غير المستبعد، سيحل في أجواء ملائمة مناسبة لتغيير دفة الحكم.
وبالنسبة للمجتمع الدولي متآمر ومتمصلح فحسب، خصوصا إذا حدث مكروه انقلابي في وقت يعزم فيه الجنرال الحاكم على خوض انتخابات رئاسية أحادية، كان الأجدر به تلافيها بأي أسلوب دستوري مقبول، لتنعقد فقط في جو مقبول لدى جميع الفرقاء، ولا يستدعي تحرك البيان رقم واحد من جديد.