قد لا يكون الإنقلاب الذي أطاح بالحكومة في تايلاند حدثا عَرَضاً، كما قد لا تكون الأزمة السياسة هي سببه الوحيد. تلمسوا سببه في شيء آخر. أتمنى أن توافقوني على أن سببه الإفراط في أكل الأرز !!
نعم! إن سبب مأساتنا وإياهم كامنة في مَارُو تَايْلانْدْ الذي تبحثون عنه وتعشقونه حتى النخاع !
إن ما أقوله هنا لا يخلو من تأسيس، ففي أدبياتنا وأدبنا الفكاهي هنالك الكثير من الكلام حول أثر العادات الغذائية على الحالة النفسية والسلوك، يعرف ذلك من يقرأ مثلا :" رسالة الفَيْشْ بين كِسْكِسْ و العيش" للإداري والأديب المخضرم، محمد فال ولد عبد اللطيف، بل إن الأمر حاضر بقوة في الموروث العربي، لقد دافع النعمان بن المنذر عن أكل لحم الابل أمام الحضارة الفارسية التي كانت تعتبره أقرب إلى العادات الغذائية للسباع من العادات الغذائية للبشر. يقال إن قوة الإنسان العربي، الجاهلي، وبسالته مستمدة من دوام تغذيه على لحم الابل !!
بالعودة إلى الارز نجد أنه كائن انقلابي بطبعه، لقد أحدث الأرز في التاريخ الموريتاني الحديث، انقلابا ضد الزرع: المادة الأولية للعصيد والكسكس، حينها دشن الموريتانيون أو علاقة لهم مع أول انقلابي، لقد وقفوا إلى جانبه حين كان وحيدا، (ربما لم يكن يبالي، لذلك، لو كان الاتحاد الإفريقي علق عضويته)، أًصروا على المعاناة مع أكله، كانوا يستعملونه وحيدا (الأرز بالماء). كان اسمه إذ ذاك سُمْبِي. لم يكونوا يبتغون من وراء أكله أي قيمة غذائية أو صحية، كانوا يحبونه لذاته. هذا هو: " الحب لذات الحب"، الذي يمثل النهاية في رواية "الحب في زمن الكوليرا" للكاتب العالمي غابريل غاريسا ماركيز !
حين جاء الفرنسيون فحصوا هذا المأكول فوجدوه خلوا من الفيتامينات ومن الطعم فسموه: vide de gout فحولها الموريتانيون إلى "فَدْغُو"، فتغلغل المفهوم أكثر في ثقافتنا ولغتنا، وأحببناه أكثر فأكثر. إننا لا نبالي بالدعاية الفرنسية السلبية تجاه محبوبنا: الارز (فدغوُ آنذاك).
و حين قدِم الأرز الى العاصمة صحب شلة جديدة، تمثلت في بعض السمك و بعض الخضار، لكنه ظل سيد المائدة. إنه الأكثر حضورا، تلك طبيعته العسكرية التي لا تفارقه، وربما حتى لا تتغلب الشلة الجديدة (حين يفوق حضورُها حضورَه) على مفعوله الإنقلابي.
يمكنك، ليلاً، أن تختار بين الكسكس والمعكرونة، لكن حين يحين وقت الارز، نهارا، فإن هذا المستبد غير مستعد البتة للتبادل على السلطة، كما لا يكنك أن ترى الأرز قبل منتصف النهار، تلك هي خاصية الانضباط العسكرية .
ليس في حياتنا شيء أكثر رتابة من الأرز و الإنقلاب، هذا الثنائي الذي يوجه حياتنا يبعث على التساؤل حول سر الصداقة بينه، لذلك سأحمل الأرز المسؤولية عن الإنقلاب، وأكاد أقول إنه حيثما وجد الأرز وجد الإنقلاب (لبنان، سوريا، مصر السودان...).
ولكن كيف حقق السينغاليون المعجزة فتغلبوا على مفعول الأرز الانقلابي اللعين؟ !
يجب أن نتعلم منهم.
يعشق الموريتانيون بوجه خاص الأرز الذي تصدره تايلاند، ويطلقون عليه مَارُ تَايْلَانْدْ، وقد باءت جهود الدولة بالفشل في إقناع الموريتانيين بمحصول مزرعة امبُورْيَه المحلية. فهل نتذوق في الأرز التايلاندي طعم الإنقلاب؟
الأرز مسؤول عن كل انقلاباتنا، فحين اشتعلت حرب الصحراء، التي لم تكن محل إجماع، وساءت الحالة الاقتصادية الداخلية للبلد، فعجزت الدولة عن دفع رواتب موظفيها، فاضطرت إلى سياسات تقشفية، تقضي بتقليص رواتب الرئيس والوزراء، حتى تتمكن من دفع رواتب الموظفين، وتكبدت موريتانيا خسائر في شرق البلاد وشمالها، بل في نواكشوط، كان لابد أن نجد حلا، أو أن يفعلها مَارُو تَايْلاَنْد، ففعلها مَارُو تَايْلاَنْدْ !
فكان انقلاب العاشر من يوليو1978
وحين توزع ولد هيداله قادة الحركات السياسية بين "الاعدام" و "السجن" و "النفي"، وضاقت الارض بما رحبت، على ساكينها، وخشي المواطن أن يكون ظله مخبرًا لولد هيداله، وكـــُــــوِّنت عجائز هياكل تهذيب الجماهير، على العمل الاستخباراتي لصالح النظام، و خَيِّل ولد هيدالة لكل واحدة من العجائز أنها ترأس حيا، واستغلق الأفقُ، كان لابد من حل، أو أن يفعلها مَارُو تَايْلَانْدْ، ففعلها مَارُو تَايْلَانْدْ.
فكان انقلاب 12-12 -1984.
وحين انكشفت مساحيق وجه ديمقراطيتنا الفتاة، لما ارتبكت ذات مساء، تحت فرقعات الانقلابات الفاشلة، وتهددها السجن الطائعي المخيف، وبكت فاختلط أحمر شفاهها العسكري بسواد كحل عينيها القبليتين الموزعتين بين الولاء لولد الطائع و النظر بعاطفة إلى الأبناء السجناء، وشغلت الرأيَ العام أخبارُ المحاكمات، صباحَ مساءَ، فأصبح الاطفال يفهمون، أكثر، في القانون الجنائي، وارتبك المشهد، كان لابد أن نجد حلا، أو أن يفعلها مَارُو تَايْلاَنْدْ، ففعلها مَارُو تَايْلَانْدْ !
فكان انقلاب 3 -8-2005
وحين قرر ولد عبد العزيز، ذات غضبة وتمرد على رئيس منتخب، أن يفعلها مَارُو تَايْلَانْدْ فعلها مَارُو تَايْلاَنْدْ ! فكان انقلاب 6-8 –2008.
اليوم ورغم استفحال الأزمة السياسية (انسداد آفاق الحوار بين الفرقاء) والاجتماعية (ارتفاع الاسعار، البطالة، وارتفاع اصوات الشرائح المهمشة) والثقافية (تردي الذوق الجمالي، وانعدام الادلجة، وسقوط المبادئ في حضيض مبادرات النفاق ) فإننا لا نريد أن يفعلها مَارُ تَايْلَانْدْ، لأننا جربنا أنه لا يعطي إلا ليعتصرَ.
هل من الممكن أن نثور ضد الانقلابيين وضد الأرز؟
إن الثورة هي الحل السحري لإبطال مفعول الأرز، يجب أن نعطيها الوقت الكافي وأن نعول عليها. إنها خلاصنا المنتظر، وأمل دمقراطيتنا الوئيدة في البعث و النشور، إنها شراعنا حتى لا تضحك علينا شعوب العالم العربي، ويسخر منا التاريخ، باعتبارنا الشعب الوحيد المتخلف عن الالتحاق بموكب الثورة، ومستقبل التنوير والرفاه الاقتصادي. قد يكون انسداد الأفق الحالي في مصلحة الثورة، إذا لم يفعلها مارُو تَايْلاَنْدْ، وكثيراً ما يفعلها مَارُو تَايْلَانْدْ.