المعارضة الموريتانية، الماضي و الحاضر و المستقبل
لقد عرفت موريتانيا كغيرها من دول غرب إفريقيا حديثة الإستقلال، نظام الحزب الواحد الذي نصب نفسه رمزا للدولة و وليا لأمر للشعب و لم يضع في حساباته الضيقة أي آلية للتبادل السلمي للسلطة
أو لفض النزاعات التى قد يتعرض لها نظامه. بعد حالة الترهل و المشاكل التى عرفتها البلاد نتيجة لحرب الصحراء، انقلب الجيش على الحزب الواحد و برر فعلته بجملة أمور لم يوفق في الحد منها.
عانت موريتانيا منذ تلك الفترة من هيمنة الجيش على السلطة ما يزيد على ثلاثة عقود مما أدى لعسكرة الحياة السياسية و صعوبة تحقيق أي إصلاح سياسي في ظل تنافس قادة الجيش للهيمنة على السلطة ضاربين عرض الحائط ترسيخ أسس الدولة و مؤسساتها. حدث كل ذلك تحت ناظري نخبة مدنية متزلفة غالبا ما عدى بعض الحركات اليسارية التى لم تكن ذات تأثير كبير بل أنها، كما يرى البعض، استخدمت أحياننا من قبل الجيش كأداة لتنفيذ أجنداته. هذه الوضعية التى عاشتها البلاد، أدت لإهمال المجتمع بكل مكوناته، فترك فريسة لكل الأمراض الإجتماعية الفتاكة.
في بداية تسعينيات القرن الماضي، قرر الحاكم العسكري مجارات المتغيرات الخارجية التى ألقت بظلالها على المنطقة ليتجاوب مع دعوات الإصلاح الخاملة في الداخل. لم يأتي هذا التوجه نتيجة لقناعة النظام السياسي بالإصلاح و لا نتيجة لضغط الطبقة السياسية، بل من أجل إطالة عمر النظام في السلطة.
مع بداية أول انتخابات رئاسية بدأت تظهر للعلن أحزاب معارضة معترف بها ترأسها شخصيات كانت قادرة على دغدغة مشاعر نسبة كبيرة من الموريتانين لكن ذلك الألق لم يدم طويلا خاصة بعد الهزيمة التى تعرضت لها على يد مرشح النظام. منذ تلك الحظة بدأت المعارضة في التآكل الداخلي وتفرق حزبها الكبير الى شظايا و زاد من حدة تقهقرها الحصار المطبق الذي فرضه النظام الحاكم أنذاك و كذلك سياسة الترغيب و الرهيب اتجاه منتسبيها. أمام ذلك الوضع السيء، اكتفت المعارضة بردود الفعل و انتهجت أسلوب المقاطعة أحياننا و المشاركة أحايين أخرى، لكنها ظلت عاجزة عن التغيير.
في خضم أحداث تلك الفترة التى تميزت بمحدودية رؤية النظام و عجزه عن تحقيق أي من أحلام الموريتانين المتمثلة أساسا في خلق دولة القانون القادرة على توفير حياة كريمة لغالبية الشعب، بدأ النظام يشيخ و يتآكل لعدة أسباب كان من أهمها طول الأمد، الفساد المستشري، الزبونية و الثقة العمياء في المقربين و الأزلام، ناهيك عن تدهور المؤسسة العسكرية و الأمنية. حينها حدثت المحاولة الإنقلابية في الثامن من يونيو لتعري ذلك النظام و لتظهره على حقيقته للقاصي والداني، على أنه ليس سوى نمر من ورق. حسب الروايات المتداولة، لم يكن للمعارضة أي دور يذكر لا في تخطيط و لا تنفيذ تلك المحاولة. و هذا الأمر قد يكون إيجابيا بالنسبة لمعارضة ديمقراطية تسعى لتكريس مبدأ التناوب السلمي على السلطة إلا أنه أيضا قد يعتبر ضعفا وغيابا للتأثير في مجريات الأحداث بعد ما يناهز عشرين عاما من الصراع مع نظام مستبد.
فشلت المحاولة الإنقلابية و بدأ النظام حينها يلملم أشلاءه في محاولة للنهوض من جديد لكن هول الصدمة و حب السلطة أعمياه عن الحلول السليمة. فكان لا بد من تغير ربان السفينة بأحد مساعديه لإنقاذها من القراصنة المتربصين بها، من عسكر و مدنيين.
سقط النظام بعد عشرين عاما من الحكم الهجين العسكروديمقراطي و هنا تجلت منهجية ردة الفعل فى أنصع صورها و بدأت المعارضة في تنفيذ الدور المنوط بها، ألا هو تسويق الانقلاب في الخارج. بعد استتباب الأمور للنظام الجديد بدأ التطلع للانتخابات و بدأت المعارضة في الاستعداد للحصاد و بدأ الانتهازيون في تحيين حساباتهم لتحديد المرشح الأكثر حظا للفوز بالانتخابات و كانت التوقعات تصب في صالح حزب معين. و هنا أيضا تظهر ضبابية الرؤية لدى أحزاب المعارضة و استعدادها للوصول للسلطة بكل الطرق المتاحة. إذ كيف يمكن أن نصدق بأن من يطمح للتغير يقوي صفوفه باعتي المفسدين و المصفقين والانتهازيين ثم يريد أن نصدق نواياه. و هكذا تكرر مشهد الفشل في انتخابات 2007 و 2009 و تكررت كذلك مشاهد الإنضمامات الهزلية للمعارضة التى أصبحت سفينة يبحر على متنها كل من قنط من رحمة الأنظمة و يقفز منها كل من لوح له نظام بعصا أو بجزة. مثل هذه المشاهد تطالعنا اليوم، فكم من مغضوب عليه من النظام الحالي، أصبح الآن جزءا من المعارضة بعد أن هجاها و بالغ في تسفيهها و كم من مفسد سابق هجر النظام ونعته بأقذع الأوصاف من فوق منبر للمعارضة، رأيناه جميعا يبادر لدعم النظام و يصدر فرماننا لإتباعه بذات الأمر. ليس للأمر علاقة بالتدخل في قناعات الناس أو ثنيهم عما هم فيه سائرون، لأنه لا عيب في كون المرء معارضا أو مواليا، من حيث المبدأ، وخصوصا إذا تعلق الأمر فقط باختلاف وجهات النظر حول أفضل الطرق و الوسائل لتحقيق رفاه الأمة وتقدمها، بل هي دعوة لإضفاء الجدية على الحياة السياسية. فيجب ألا تكون المعارضة ملاذا لكل المتلونين و ألا تكون الموالاة مرتعا لكل الانتهازيين. فعلى المعارضة أن تضع شروطا و التزامات أدبية للانضمام لصفوفها.
إن بعض الوجوه التى تصدرت مسيرة المعارضة الأخيرة لا تبرهن على المصداقية بل تدحض جل التهم التى ما فتأت أحزاب المعارضة توجهها للنظام القائم لأن ما تراه من عيوب في هذا النظام موجودة قطعا بين ظهرانها. مثل هذه الأمور يضعف مصداقية المعارضة و يؤدي لتآكل شعبيتها، ضف لذلك الرصيد الكبير من الضغائن الشخصية غير المعلنة التى نمت عبر الزمن بين مختلف قياداتها و لم تترك للثقة مكاننا بينهم.
في الوقت الراهن تستعد البلاد لانتخابات رئاسية جديدة تقاطعها أحزاب المعارضة التقليدية التى قاطع بعضها الانتخابات التشريعية و البلدية الماضية و شارك فيها البعض الآخر. إن هذه المقاطعة ستخلق فراغا كبيرا في جسد الطبقة السياسية الموريتانية لأن بعض هذه الأحزاب تضم شخصيات لها طابعها المميز وبصمتها الخاصة في المشهد السياسي الوطني و سيكون تعويضها صعبا في الفترة المقبلة، شئنا أم أبينا.
إن أكبر المتضررين من هذه المقاطعة هي أحزاب المعارضة لكن بدرجات متفاوتة، أما النظام فلن يخسر شيئا فهو يستفيد من الظروف الدولية التى تصب في مصلحته كما يقف على كومة من الإنجازات، لا يراها معارضوه بالضرورة، كما يستند على سيل جارف من الأنصار و الشيع قد تشكك المعارضة في نوايا بعضهم كما أن منافسيه الخمسة على كرسي الرئاسة ليسوا سوى هواة يلعبون ضد مرشح محترف خبر جميع أنواع الأزمات طوال مأموريته المنصرمة، و خرج منها منتصرا.
سيكون لزاما، في هذه الحالة، على كل السياسيين الموريتانين المخلصين التفكير مليا من أجل الحفاظ على استمرار طبقة سياسية ناضجة متعددة الأفكار و مختلفة المرجعيات لأن ذلك وحده هو ما يضمن استمرار الديمقراطية التعددية.