لماذا كتاب "فتح الشكور" بالذات، وهو كتاب قد مضى على نشره أزيد من ثلاثة عقود من الزمن؟ سؤال قد يطرحه البعض. أوليس كان الأجدر بنا مثلا الحديث عن كتاب "منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور" الصادر حديثا أو غيره من الكتب الحديثة؟
للإجابة على هذا السؤال أقول إن سبب هذا الحديث كلام كتبته على "الفيس بوك" قلت فيه إن كتاب "فتح الشكور رغم أهميته إلا أنه لم ينل من الاهتمام والاحتفاء ما يستحق"، وقد خالفني في ذلك صديق عزيز، أحترمه ثقافيا ومعرفيا قبل أن أحترمه كأخ وصديق. وحين كتب ما كتبت لم أكن ألقي الكلام على عواهنه، وإنما كنت أعي ما أقول. لست أنكر أن الكتاب ذائع الصيت في الأوساط الأكاديمية، ولكن الذي أقصده أن الكتاب يجهل مضمونه الكثير ممن يحسب في عداد المثقفين أحرى عامة الناس. ورأيي أن كتابا بحجم "فتح الشكور" يؤرخ لمرحلة هامة من تاريخ شعب إذا لم تكن مفرداته ومعانية مشاعة بين الناس فذلك دليل على أنه لم ينل ما يستحق من الاهتمام والاحتفاء.
فـ"فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور" للعلامة الطالب محمد ولد أبي بكر الصديق رحمه الله تأريخ أو ترجمة لكوكبة من "علماء التكرور" الأفذاذ الذين جمعوا بين التبحر في العلم والزهادة في الدنيا والتشمير في العبادة، مع الصلابة في الحق والبعد عن مداهنة الرؤساء والكبراء، والنبل والمروءة والكرم، وكل خصلة فاضلة تليق بالعلماء.
ولأننا في زمن كثر فيه الكسل، وفشا فيه التعلق بمتاع الدنيا، وعمت فيه المداهنة في الحق والوقوف مع الظلمة، كانت حاجتنا إلى إحياء تلك السير المضية وتجديد ذكرها والتذكير بها من الأهمية بمكان.
وخلال سياحتي في الكتابة عثرت على جوانب مضية في حياة أولئك الأفذاذ أرتأيت أن أشير إلى بعضها لتعم الفائدة، وليكون فيها تذكرة ونبراسا.
إنما العلم بالتعلم:
لست هنا بصدد التأكيد على تبحر أولئك الأفذاذ في علوم الشريعة، والعلوم اللغوية والعقلية، وأخذهم من كل ذلك بحظ وافر، فقد أكد عنوان الكتاب على ذلك "فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور"، و"أعيان العلماء" هم المشاهير المبرزون الذين تفوقوا في كل فن، ولذلك قال المؤلف في مقدمة الكتاب (لم أذكر غير المشاهير من العلماء)، (وربما تركت ذكر من كان مشتهرا منهم لبعد داره مني، أو لعدم معرفتي بأخباره)(ص26).
المقصود هنا هو ذكر نماذج من ما كابده أولئك الأفذاذ في الطلب والتحصيل، وأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من التبحر في العلم والمعارف بالراحة، وفي الحديث (إنما العلم بالتعلم) رواه البحاري، وسئل أحد السلف: بما نلت العلم؟ ، فأجاب: "بالمصباح والجلوس حتى الصباح".
ومن نماذج المكابدة الرائعة في طلب العلم وتحصيله ما ذُكِرَ عن الشيخ الطالب الأمين بن الطالب لحبيب الحرشي بأنه كان لا يرى (جالسا لا يفعل شيئا قط، بل لا تراه إلا يفسر أو يكتب أو قائما في أمور المسلمين، أو منتظر الصلاة يذكر الله تعالى)(ص66)، وكذلك العلامة الطالب البشير بن الحاج الهادي الإيديلبي، الذي كان يقضي (نهاره في التدريس والشرح والإفتاء، وليله في المطالعة، وكان غاية في اجتهاد، فكان يرى في عمامته الدخان لكثرة مطالعته بالليل)، قالوا (ولم تيبس داوته منذ سنين عديدة، وسمعت أنها نحو ثلاثين سنة)(ص78 و80)، ومثله الشيخ سيد أحمد بن سيدي عثمان الغلاوي، فقد كان رحمه الله تعالى (معتنايا بالعلم محصلا، ذا بحث ومطالعة، لا تراه إلا وكراسه في يده يطالعها)(ص52)، ومثله أيضا العلامة أحمد بن الحاج العلوي، الذي (مكث نحو خمسين سنة يدرس العلم في شنجيط)(ص56)، وكذلك العلامة الفقيه محمد بن الفقيه الطالب الولاتي، الذي كان (كثيرة المطالعة، وربما كان يطالع آخر النهار)، (فإذا اشتملت ظلمة الليل أوقد النار وطالع على ضوئها)، فـ(لما عجز في مرض وفاته عن إمساك الكتاب، كانت تمسكه له زوجته فينظر فيه، فإذا أكمل وجه الورقة قلبتها له فينظر في الوجه الآخر)(ص120)، وكذلك العلامة القاضي مم بن إحلون الكلادي رحمه الله، فقد كان في زمن الشتاء لا ينام إلا غفوة بين المغرب والعشاء، فإذا صلى العشاء وعاد إلى بيته (يوقد نارا ثم يبيت يطالع حتى يصبح ويظل نهاره يطالع)، وأما في زمن الحر فكان (يستغرق النهار بالمطالعة دون الليل)(ص140).
وإنما ثمرة العلم العمل:
ولقد أكسبهم العلم درجات رفيعة في الزهد والورع والعبادة والصيانة وحسن الخلق، (وإنما العلم دليل، فمن لم يدله علمه على الزهد في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم) كما قال بعض السلف، وفي الذكر الحكيم: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
ومن النماذج الرائعة هنا ما ذُكِرَ عن العلامة الرباني سيد أحمد بن البشير الكلسوكي رحمه الله أنه كان (قليل الكلام فيما لا يعنيه، ولا يكاد يفتر عن الذكر ليلا ولا نهارا، ولا تراه إلا يقرأ أو يقرئ أو يذكر)، وكان سخيا كثير العطاء (حتى إنه بين دارين في البادية أعطى ثلاثين ناقة)، (ومما أشتهر به بعد دفنه أنه كان يسمع تسبيحه في قبره بالتواتر من الناس)( 54 و55 و56)، ومثله العلامة النبيل الطالب أحمد بن محمد رار التنواجيوي فقد (كان رحمه الله عابدا زاهدا صالحا تقيا، ذا خلق حسن، صاحب إنفاق في سبيل الله)، (ومن سخائه أن بعض تلامذته تزوج، وأمسك أصهاره زوجته حتى يدفع لهم حال الصداق وليس عنده ما يدفع لهم، فأعطاه عشرين بقرة دفعها لهم، وهو قليل ذات اليد)، ومن ورعه أنه كان (لا يقوم بأرض جدبة خوفا من حق البهائم)( 59 و60 و61)، وكذلك الرجل الصالح الشيخ الطالب الأمين بن الطالب لحبيب الحرشي فقد (كان رحمه الله تعالى كثير التواضع والخشوع، يسمع لصدره أزيز، كثير التنهد في الصلاة، يبكي عند خطبة الجمعة، غاضا بصره حتى يظن من لا يعرفه أنه لا يبصر)، و(كان قائما بأمور المسجد حتى قال بعض الناس يوم وفاته: اليوم ييتم المسجد)(64 و 65 و66)، ومثله الفقيه الشريف أحمد بن أحمد بن الإمام، فقد وصفوه بأنه (من أهل الفضل العلم والعمل والدين محافظا على السنة والمروءة والصيانة)(ص51).
وأن نقول بالحق حيثما كنا:
وميزة العالم الرباني صيانة علمه عن أن تدنسه الأطماع، حتى يبقى محفوظ المكانة مصون الجناب. والعالم إنما ينال الهيبة، ويحتل المكانة عند الله وفي قلوب الناس إذا تقيد بمقتضى علمه الذي يحمل، وأخذا نفسه بالعزيمة، ولم يمالئ الظالمين. وكما قال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله:
ولو أن أهل العلم صانوه صـانهم .. ولو عظمــوه في النفوس لعظما
ولقد كان علماؤنا الأفذاذ رحمة الله عليهم أجمعين من أهل العلم الصادعين بالحق، (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا).
ومن ذلك ما ذكر عن القاضي الفقيه الحاج أبو بكر بن الحاج عيسى الغلاوي أنه كان رجلا (صليبا في الحق، قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يستحي من الحق. أتاه يوما رئيسا من رؤساء القبائل شاهدا على شيء فرد شهادته ولم يقبلها)(ص75)، وكذلك الشيخ الحاج أحمد بن أند عبد الله المحجوبي، فقد (كان في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، مقداما في الأمور العظام، إليه انتهت رئاسة الفتوى والقضاء والنوازل بولاتة، لا يثبت على باطل، ذا همة عالية وشهامة ونخوة)(ص43)، ومثلهما الشيخ الحاج أحمد بن الحاج الأمين الغلاوي، الذي وصفوه بأنه كان (قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تهابه اللصوص وتخافه الظلمة)، (ناصر السنة حتى كاد يقيم الحدود في بلده لأنه مسموع الكلمة عند أهل بلده). و(كان نزيه النفس عن طعام الظلمة)، أرسل له يوما أحد الأمراء ألفا من الزرع، فقال للرسول: قل له كثير يأخذ زرعه غير أحمد.(ص48)، وكذلك العلامة الحبر الإمام محمد بابا بن الحاج أحمد التنبكتي، فقد (كان وقوفا عند الحق، ولو كان من أدنى الناس، ولا يداهن فيه ولو الأمراء والسلاطين)(ص31)، وتؤكد ذلك مؤلفاته القوية، ومنها كتابه "جلب النقمة لمجانبة الظلمة"، وكذلك كتابه الآخر "ما رواه الرواة في مجانبة الولاة".
كانت هذه سياحة سريعة في هذا الكتاب الهام، اكتفينا فيها بذكر نماذج للتمثل، وأحسب -بعد هذه السياحة- أن كثيرا من قارئي هذا السطور سيتفقون معي فيما ذهبت إليه من كتاب "فتح الشكور لم ينل من الاهتمام والاحتفاء ما يستحق"، وبأن أغلب هؤلاء الأعلام الذين أوردنا أسماءهم وهذه الصفحات المضيئة في حياتهم يجهلها الكثير، ليس من عامة الناس فحسب، وإنما من الأوساط الثقافية والفكرية.