يبدو أنها جرعة أمل مبالغ فيها تلك التي وزعتها الجهات الدولية والإقليمية "المعنية" بالشأن المالي، بعد تماثل هذه الأخيرة للتعافي من ويلات ومخلفات الأحداث التي شهدتها خلال السنوات الأخيرة وهي الأحداث التي هددت بـ "صوملتها"،
بعد أن وجدت نفسها فجأة مسرحا لشطح وردح التيارات المتطرفة، والعصابات الإجرامية، وشبكات المخدرات.
هذا فضلا عن تفاقم التوتر المزمن والصراع التاريخي بين الدولة المالية وثوار الطوارق، المطالبين بحصتهم المستحقة من السلطة والثروة.
ولا داعي لسرد تلك الأحداث التي لا تزال ماثلة للعيان والتي بلغت ذروتها بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس آمادو توماني توري في 21 مارس 2012.
وهو الانقلاب الذي جعل دولة مالي في وضع لا تحسد عليه، بين سندان انهيار الدولة المركزية في "بامكو" من جهة، ومطرقة الحركات والعصابات الإرهابية في الشمال من جهة أخرى، تلك الحركات التي عاثت فسادا في البلاد والعباد خاصة في المدن ذات البعد الأثري والتاريخي.
كل تلك التطورات تلاحقت "لتبرر" للذئب الفرنسي "سارفيل" زرع مخالبه في أحشاء تلك الصحراء الحبلى بالموارد الطبيعية، وفعلا تمكن من تقليم أظافر الجماعات المتطرفة، تزامنا مع عملية سياسية كانت تتحرك للأمام برعاية إقليمية ودولية، والتي من ثمارها اتفاق "واغادوغو" في 18 يونيو 2013 والذي يرسم خريطة طريق للحوار بين الدولة المالية وحركات الطوارق، ومكنت تلك الاتفاقية من دخول عناصر الجيش المالي لمنطقة "كيدال" للإشراف الأمني على العملية الانتخابية، التي جرى شوطها الثاني في 11 اب/اغسطس وأسفر عن فوز الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا.
هذه المؤشرات المطمئنة جعلت المجتمع الدولي وبعض المراقبين يطلقون العنان لأوهام أو أحلام الاستقرار في أرض لا تزال فيها دماء بكل الألوان مراقة، ولا تزال النعرات القبلية والإثنية تتوثب وتترصد اللحظات السانحة للانقضاض، مثلها تماما أشباح الصحراء من رجال تنظيم القاعدة وشبكات المخدرات، على الرغم من رمي "الذئب الفرنسي" لعصا التسيار هناك بحجة ضبط الأمن والاستقرار.
وتأتي مذبحة "كيدال" في 21 من الشهر المنصرم لترغم السلطات المالية والجهات الإقليمية والدولية على الحد من جرعة التفاؤل والأمل، أو لتهيئ لوضع جديد تسعى جهات ما لتكريسه محليا ودوليا.
نعم جاءت مذبحة "كيدال" لتقطع رأس الحاكم المركزي وهي بذلك تقطع حلم الجميع في استقرار مبكر، لا تدعمه معطيات الأرض ووقائع الأحداث، خاصة أن الحادثة تأتي على خلفية زيارة رئيس الوزراء المالي موسى مارا.
وللعديد من الاعتبارات وجد رئيس الاتحاد الأفريقي الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز نفسه مضطرا لركوب الريح ليتحكم في الوضع قبل أن يخرج عن السيطرة، ربما استشعارا منه لخطورة التطورات التي قد تعبث بكل ما تحقق وتعيد "مالي" لحالة ما قبل الانتخابات، وطبعا لا ترتاح موريتانيا لوضع كهذا لما له من مخاطر عليها نظرا للحدود المشتركة، كما أن الجهات الدولية خاصة فرنسا بدأت التفكير في جني ثمار تدخلها في "مالي"، الذي هو بكل تأكيد ليس لوجه الله، بل لوجه الغاز والبترول والمعادن النفيسة التي ترقد في جوف الصحراء "المالية" والمرتبطة ببعض الصحراء الموريتانية (تاودني).
وفعلا حقق الرئيس محمد ولد عبد العزيز نجاحا مذهلا في تمكنه من إقناع الأطراف بالعودة لاتفاق "واغادوغو"، وخرج الرئيس المالي نفسه يتغزل على الرئيس الموريتاني "أفضل رئيس في إفريقيا"، وكأنه لم يكن متأكدا من النوم في قصره الرئاسي ليلة أخرى لو لم يقطع ولد عبد العزيز زيارته لرواندا.
ورغم التزام الحكومة المالية من جهة والأطراف الأزوادية من جهة أخرى، ممثلة في الحركة الوطنية لتحرير أزواد والمجلس الأعلى لوحدة أزواد والحركة العربية الأزوادية - رغم التزام الجميع - بتلك الاتفاقية التي كتبت قبل أن تجف دماء "كيدال" فإن هذه الحادثة تطرح جملة من الأسئلة المثيرة للفضول السياسي على الأقل!!.
ومع أنني لا أوافق من يرى بأن عملية "كيدال" عبارة عن نص درامي حدد كاتبه (؟) مشاهده وزمانه ومكانه وحتى أبطاله من رئيس الوزراء المالي، للحاكم المذبوح، للرئيس الموريتاني، للأطراف الأزوادية إلخ....
ورغم عدم تشكيكي في رغبة الدول المعنية بالملف المالي الجامحة للهدوء والاستقرار خاصة فرنسا الطامعة في الثروات، وموريتانيا الراغبة في تأمين حدودها، واستخراج ثرواتها الغازية في منطقة "تاودني" القريبة من "مالي" ، رغم كل ذلك فأنه لا يمكن أن ننظر للأمور بساذجة، بحيث نعتبر حدوث عملية بهذه البشاعة على مرمى حجر من قوات حفظ السلام الدولية (مينوسما) حدثا عرضيا واعتباطيا، فهل كانت تلك القوات خاصة القوات الفرنسية على علم بالعملية ولم تحرك ساكنا؟ وهذا يطرح باقة مشفرة من الأسئلة المفخخة مستقبلا، أم لم تكن على علم وهذا مستبعد ويقدح في الحس الأمني لهذه القوات ويقوض مبررات تواجدها على الأرض؟
أما حين تتسرب معلومات عن نصائح قدمتها القوة الفرنسية لوزير الدفاع المالي بعدم السفر إلى "كيدال" فإن أسئلة التشكيك تتناثر حائرة!!!
هل هي عملية مسك العصا من الوسط، وترويض فرنسي "ودي" للرئيس كيتا، حيث أرادت فرنسا بطريقتها الخاصة أن تقول له أنا هنا؟ ألم تعتمد فرنسا عبر تاريخها الاستعماري والاستنزافي لخيرات الشعوب أسلوب، خلق بؤر التوتر ومحاولة إذكائها كلما كان الأمر ضروريا؟
وهل هناك علاقة بين حادثة "كيدال" وقرار انسحاب القوات الفرنسية من مالي الذي أعلنه وزير الدفاع الفرنسي "جون إيف لودريان" في يناير من هذا العام مؤكدا أنها ستبقي فقط على نحو ألف جندي لمكافحة الإرهاب في مالي، فيما بادر دبلوماسي فرنسي بعد حادثة "كيدال" إلى إعلان "إرجاء الانسحاب لشهر أو شهرين إذا سارت الأمور بشكل جيد"؟
وإذا كانت العملية البشعة وملابساتها تثير كما هائلا من الأسئلة المفخخة، فإن عملية الاحتواء السريعة للوضع ليست أقل استدارا للأسئلة، فهي على الأقل تنم عن تحكم طرف "ما" في جميع أطراف اللعبة، فهل هو الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز الذي على يده وبإشرافه تمت العلمية، وهو نصر دبلوماسي كبير له ولموريتانيا؟، ولكن بلغة الواقع ما هي الأوراق التي يملكها ولد عبد العزيز للتأثير على هذه الأطراف؟ بل هل يملك الاتحاد الأفريقي نفسه الذي يرأسه ولد عبد العزيز أية أوراق للضغط على هؤلاء وإرغامهم على التوقيع على بياض رغبة أورهبة؟ وما هو السر الكامن وراء ظهور النظام المالي مذعورا ومستعجلا على تقبيل أكف ذابحي حاكمه المركزي بـ "كيدال"؟ وما هي الأسرار الكامنة وراء استقالة أو إقالة وزير الدفاع المالي الذي لم يرافق رئيس الوزراء إلى "كيدال" بل تسرب أنه نصحه بعدم التوجه هناك؟
أسئلة كثيرة تطرحها "كيدال" يبدو أنها مؤجلة لكن الردود عليها -وهذا ما لا نتمناه قطعا- قد تأتي في لبوس أحداث ووقائع وتطورات لا تخدم استقرار هذا البلد المنكوب أمنيا وتنمويا، إن لم تكف الأطراف الإقليمية والدولية وحتى بعض دول الجوار عن استغلال حالة التدهور التنموي والأمني لهذه الدولة الجريحة، وتعمل كل الأطراف بجدية وصدق على مساعدتها على معالجة جراحات الماضي والحاضر والتوثب الآمن للمستقبل بالمصالحة الصادقة مع أبنائها، وضبط وحدتها الترابية والاستغلال الأمثل لثرواتها الهائلة.