ليبيا بين مخاض (الدولة) وصراع المليشيات / محمد الحافظ ولد الغابد

لئن كانت الثورة الليبية قد صنعت تحولًا سياسيًّا كبيرًا بإسقاطها لنظام العقيد معمر القذافي، إلا أن الحالة الثورية وما أنجزته من بنى تنظيمية حزبية عسكرية وأمنية ما تزال عاجزة ومرتبكة إلى حدٍّ كبير في إحلال “نظام الدولة” في البلاد لتعويض الخلل والنقص الملاحظ سابقًا على نظام دولة العقيد الشمولية التي فرقها الثوار أيادي سبأ عند أول صيحة.

- تركة ثقيلة،

- القبيلة والمليشيا،

- تحريض ذوي القربى،

- ذرائع أجنبية،

- استحقاقات عاجلة.

**  **  **

- تركة ثقيلة:

لقد عاشت ليبيا فترة استثنائية استمرت تقريبًا طيلة أربعة عقود من الحكم الشمولي حرمت البلاد من النموّ السياسي والاجتماعي بصورة طبيعية، ممّا اضطر النخب السياسية في البلاد إلى الهجرة في الخارج أو اللجوء للعنف السياسي كوسيلة للبحث عن الخلاص من النظام الشمولي.

وجاءت ثورة فبراير وقد نضجت الظروف بشكل كبير لصالح تحول سياسي كبير لم تستطع أوعية الحياة طيلة العقود الأربعة استيعابه، وظل النظام حتى في السنوات الأخيرة يرفض أي انفتاح سياسي يسمح بتحول مدني سلس، كما أن النظام أيضًا عاش منذ العام 1986 في عزلة دولية وحصار محكم، وجاءت الحكومات المعاقبة بعد انتصار ثورة فبراير 2011 لترث تراكمات سياسية واقتصادية صعبة وعلى مستوى جهاز الدولة العسكري والأمني. لم يترك العقيد لليبيين ما يعتمد عليه من بنى مؤسسية، ولذلك طرحت بإلحاح إشكالات إعادة ترميم المؤسسة العسكرية الليبية الضعيفة أو المعدومة أصلًا، ممّا جعل التشكيلات الثورية بعد التحرير تشعر بأنها تسد فراغًا في تأمين المدن والقرى والإشراف على إدارة الملفات الأمنية والعسكرية في ظل غياب منظومة أمنية متكاملة يركن إليها تكون قادرة على استيعاب المليشيات الثورية وامتصاصها، وهذا العجز في إعادة صياغة المؤسسة العسكرية والأمنية وفقًا لقواعد المنظومات الأمنية في الدولة الحديثة، جعلَ مظهر المليشيات يستمرّ دون أن تكون له القدرة على المساهمة في الاستقرار وبات مع انتشار السلاح على المستوى الفردي والشعبي يشكل مظهرًا من مظاهر غياب الدولة المشلولة أصلًا والتي لم تتأسس لها طيلة حكم العقيد أجهزة عسكرية مستقرة، وإنما اعتمد العقيد دائمًا على الكتائب والمعسكرات التي هي في الحقيقة أشبه بالمليشيات؛ لأنه كان يخاف من الانقلابات العسكرية.

فقد أفرغَ المنظومة العسكرية من محتواها، واتجه للاعتماد أكثر على كتائب عسكرية متفرقة يتحكم هو بصورة شخصية في قيادتها وتوجيهها تفاديًا لأيّة مخاطر محتملة، وكان القذافي شخصيًّا على دراية وخبرة عميقة بخطورة التنظيمات عمومًا والتشكيلات العسكرية على وجه الخصوص؛ لأنه هو شخصيًّا أسّس تنظيمًا متنوعًا به مدنيون وعسكريون، وهو الذي مكّنه من الانقضاض على الملكية على الرغم من افتقاره للعديد من الآليات التي تمكنه من قيادة تحول كبير على هذا المستوى، وظلّ مسكونًا بالخوف من الانقلابات التي رآها سهلة ميسورة من خلال تجربته الشخصية، كما كان دائمًا مرعوبًا من تأثير القبائل القوية على نظامه فأنشأ تحالفات قبليّة لحماية نظامه من القبائل المؤثرة في الوقت الذي كانت فيه قبيلته من أفقر القبائل وأبعدها عن الحياة الحضرية في المدن ولم تكن بها قيادات قادرة على النهوض بوظيفة الطبقة الوسطى المؤثرة، وتمّ اصطناع تحوّل كبير في السياق القبلي لتأمين هذا الدور، وكان دور تحالف القذاذفة والمقارحة في هذا الصدد كبيرًا (حسب ما يؤكّد عبد الرحمن شلقم والدكتور عقيل حسين في كتابيهما عن تجربة القذافي ورجاله وآلياته في الحكم).

- القبيلة والمليشيا:

تسابقَ النظامُ والثائرون عليه عند اندلاع الثورة إلى استخدام الأداة القبلية والجهوية لكسب الشعب الليبي وتوظيفه لما يخدم أجندة كل طرف، وقد نتج عن هذه الحالة انتشار واسع للسلاح وتشكّلت المليشيات في الأحضان الجهوية والقبلية والقروية. وهذا الوضع الموروث عن الحالة الثورية يعوق بشكل كبير عملية اندماج المليشيات في أجهزة الدولة التي لا تتوفر على مصداقية كبيرة لكي تكون قطبًا جاذبًا لاندماج هذه المجموعات المسلحة التي تحتمي بمنطق شرعية داخلي (جهوي قبلي) يعزز استمرارها والذي يصل لحدّ اعتبار أفراد هذه المليشيا يقومون بواجبهم المعتمد على مشاركتهم في صناعة الواقع الجديد المنبثق عن نجاح الثورة وحمايتها بفاعلية، كما أنّ استمرار تشبثهم بالسلاح تعززه دينامية التنافس الناتجة عن التعبئة والحشد الثوري خلال الثورة ذاتها، وما نتج عنها من ثارات ومخاطر تدفع الكثير من الجماعات القبلية والجهوية إلى الاستمرار في التشبث بالسلاح لدرء المخاطر المحتملة في ظل وضع انتقالي مضطرب لم تنشأ فيه مؤسسات يثق فيها الناس ويطبعها التنافس والصراع بين التيارات ومجموعات الضغط المتنافسة على النفوذ واحتلال موقع مناسب في الدولة الليبية الجديدة الآخذة في التشكل.

يصل عددُ القبائل في ليبيا إلى 150 قبيلة تقريبًا، والخطورة الأكبر في الحالة القبلية هو أنّ العديد من المدن الليبية نشأت كمدن للقبائل يشكلون بها أغلبية مطلقة، وهذا الوضع له وجه إيجابي؛ فقد يساعد على استقرار المدن والقرى لسهولة بناء الإجماع والوفاق وتشكل مدينة مصراتة نموذجًا في هذا السياق، وبنفس المستوى أيضًا يمكن أن يشكل عامل تحدٍّ وانقسام وبالتالي يغذي باستمرار فقدان الطمأنينة والاستقرار.

تشير العديد من التقارير إلى أنّ ثمة الآن في هذه اللحظة بليبيا مئات المليشيات المسلحة منها 250 ألف مقاتل تنضوي تحت شرعية وزارات الدفاع والداخلية، مع العلم أن العدد الفعلي للثوار الذين قاتلوا كتائب القذافي لم يكن يتجاوز 30 ألف مقاتل سنة 2011. وهذا الكم يستند في الكثير من الأحيان للمجموعات القبلية والمناطقية وحتى القروية أكثر من استناده للانقسام الفكري والأيديولوجي ممّا يجعل هذه الحالة متجذرة وتتجاوز الحالة السياسية إلى حالة اجتماعية عميقة ومنتشرة يصعب تجاوزها إلا عبر سنوات من العلاج المستمر والفاعلية الإدارية والحكومية. وإذا اقتصر النجاح على مجرد تفادي الانزلاق نحو الحرب الأهلية وبناء فاعلية أمنية تتصدى للجريمة العابرة للحدود، فإن ذلك يعتبر نجاحًا كبيرًا في الوضع الليبي، خصوصًا وأن ثمة محاور خارجية تؤثر في الشأن الليبي وتنافِس على كسب الرهان في هذه البلاد.

كما يشكّل انتشار السلاح عامل تقويض للاستقرار الأمني، وتقول العديد من المصادر إن في ليبيا 20 مليون قطعة سلاح؛ ممّا يعني أن مشكل انتشار السلاح يعتبر أكبر عائق للأمن، بل إن هذه الظاهرة بدأت تتحول مع الوقت إلى مسألة عرفية من خلال أسواق السلاح المنشرة والتي أصبحت مصدر رزق لشرائح من المجتمع، فضلًا عن كونها سوقًا للجريمة له خدماته ومقاولاته؛ “إذ بإمكان الشخص اليوم في بعض المدن أن تشتري السلاح للاستخدام الشخصي، بل وبإمكانه تأجير من ينفذ له عملية (الجريمة) التي يريد”.

- تحريض ذوي القربى:

تعاني ليبيا اليوم من استهداف العديد من الأنظمة العربية لها من خلال دعم التمرّد على السلطات المنتخبة وتعميق الانقسام والتهديد باجتياح البلاد والسيطرة على ثرواتها كما لوح بذلك المشير عبد الفتاح السيسي قبل أسابيع. ويتجاوز التحريض العربي ذلك لتوظيف وسائل إعلامية خليجية في إعطاء صورة مبالغ فيها عن هيمنة التيارات الإسلامية في ليبيا، مع أنه منذ سقوط القذافي لا توجد سلطة مركزية في البلاد المترامية الأطراف.

وبلغ تحريض ذوي القربى ذروته عندما دعمت دول الخليج ومصر عمليات اللواء المتقاعد خيلفة حفتر الذي يتخذ من ذريعة محاربة الإرهاب آلية للانقضاض على مخرجات العملية الانتقالية وإفشالها. وعلى الرغم من استحالة ما يدعو له حفتر وتروج له القنوات الفضائية المموّلة إماراتيًّا وسعوديًّا من محاربة الإرهاب بمبادرة من طرف واحد لا يملك عناصر القوة النوعية الكافية لحسم المعركة، إلّا أن هذه الحملة ستحقق بالنسبة لدول الخليج ومصر هدفًا مهمًّا وهو إجهاض عملية التحول الناتجة عن الثورة، وبالتالي إفساح المجال لمشروع الثورة المضادة ليبدأ فعله وقد تعب الناس من الرهانات والصراعات، وبالتالي يكونون مستعدين للقبول بأي شيء وعندها يتحقق الهدف المصري الخليجي بتجريد الإسلاميين السياسيين من القوة التنفيذية في الدولة.

وقد بات واضحًا أنّ الهدف السياسي لحراك حفتر الأخير ليس محاربة جماعة أنصار الشريعة المدرجة أمريكيًّا على قائمة الإرهاب فقط، وإنما محاربة مجموعات الثوار الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية ككتيبة معسكر 17 فبراير وكتيبة رافل السحاتي؛ وهي كتائب مقربة فكريًّا من الإخوان المسلمين وكان لها دور كبير في حفظ الأمن والاستقرار في البلاد أثناء الثورة وبعد سقوط النظام وشاركت في تأمين العمليات الانتخابية وتتبع رسميًّا لوزارة الدفاع. وأغلب الهجمات التي شنتها الطائرات التابعة لقوات حفتر في بنغازي استهدفت لحد الساعة، بشكل رئيس، كتائب الإسلاميين المعتدلين المشاركين في العملية السياسية؛ ممّا يؤكد أن مشروع حفتر ذو أهداف سياسية أكثر منه عملية أمنية أو عسكرية محترفة تسعى لعلاج مشكل الإرهاب.

وقد حازت عمليات حفتر على تزكية واسعة من مسؤولين سابقين يشملهم قانون العزل السياسي مثل عبد الرحمان شلقم ومحمود جبريل، وكلاهما قدّم دعمًا سياسيًّا كبيرًا للثورة، وصرّح جبريل لقناة العربية بأن هذه فرصة للتخلص من نفوذ الإخوان المسلمين في ليبيا المؤثر داخل المؤتمر الوطني معتبرًا أن وجود الإخوان في ليبيا هو الأخير في العالم العربي بعدما تمّ إقصاؤهم في مصر وجرى تحجيمهم في تونس واليمن، ولكنّه حذر من أن محاولات بناء الجيش حاليًا على أساس جهوي وإقليمي قد يجعل البلاد بعد سنوات أمام ثلاثة جيوش؛ وهو ما يهدّد وحدة البلاد في ظل تنامي نزعات الفيدرالية والانفصال الإقليمي.

ويبقى الخطر الأكبر في ليبيا حاليًا ماثلًا في فشل المسار الانتقالي، خصوصًا في ظلّ انتهاء فترة ولاية المؤتمر الوطني العام والنزاع القانوني حول شرعية حكومة أحمد امعيتيق، وتبقى فرصة نجاح انتخابات مجلس النواب في الخامس والعشرين من يونيو القادم هي الفرصة والأمل للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.

- ذرائع أجنبية:

من الراجح الآن أن ثمة خلافًا في الموقف الغربي من ليبيا؛ ففي الوقت الذي تتفهم فيه أوروبا ضرورة اكتمال المسار الانتقالي واستقرار السلطة لضمان استمرار تدفق النفط الليبي الذي تعتمد عليه أوروبا بنسبة 35%، بينما تجد إدارة أوباما نفسها محرجة في موقف لين تجاه ليبيا التي شهدت اغتيال السفير الأمريكي في بنغازي، وباتت قضية التحقيق في اغتيال هذا السفير من طرف متشددين إسلاميين محلّ تحقيق آمريكي مثير يحرك ويصوغ السياسة الآمريكية من خلال صراع الحزبين المتنافسين في الولايات المتحدة.
وتحظى ليبيا باهتمام عالميّ كبير من خلال تعيين كمّ كبير من المبعوثين الدوليين المهتمين بمستقبل البلاد وتحولاتها الراهنة المؤثرة في الاستقرار بالمنطقة.

- استحقاقات راهنة:

1-  على المستوى السياسي: يشكل نجاح الانتخابات رهانًا حيويًّا بالنسبة للمرحلة الانتقالية الليبية، وإذا ما تمكّنت السلطات الليبية من النجاح في انتخابات مجلس النواب القادمة المقررة في الخامس والعشرين من يونيو الجاري، فإن البلاد تكون بذلك قد هيّأت بشكل كبير للخروج من عنق الزجاجة، وإذا ما فشلت هذه الانتخابات جزئيًّا أو كليًّا؛ فإن النفق المظلم يكون قد فتح فاه لابتلاع البلاد.

2-  فتيل الحرب الأهليّة: يشكّل استمرار العمليات بين قوات حفتر وخصومه الإسلاميين أكبر تحدٍّ لاستقرار البلاد، خصوصًا إذا انزلق الصراع نحو مواجهة مفتوحة ومتسعة في الشرق، وسيكون الصراع داميًا إذا ما فشلت جهود الاحتواء في التوصل لحل يوقف نزيف الدم، وقد يتعمق المشكل بشكل أكبر إذا ما تعززت جهود حفتر بتدخل أو دعم مصري بقوات برية؛ وهو أمر مستبعد، ولكن يبقى واردًا في ظلّ طموحات السيسي التي عبّر عنها سابقًا فيما عبّر حفتر عن دعوته المصريين للمشاركة في ضرب الإرهابيين بليبيا بوصف ذلك يشكّل ضمانة لأمن البلدين.

ولا يخفي العديد من المراقبين مخاوفهم من نجاح أعداء ليبيا الداخليين والخارجيين في دفعها للفشل والتدخل الخارجي الغربي على نحو ما فعلته فرنسا في مالي، وعندها سنكون أمام عملية سيرفال فرنسية جديدة في الجنوب الليبي وأمام عمليات أمريكية في بنغازي ودرنه لضرب معاقل قتلة السفير الآمريكي أكريس استفيز 2012. وعندها، من المؤكّد أنّ عقودًا من فشل الدولة الليبية تكون قد بدأت.

ويبقى الرهان على قدرة آليات الحوار السياسي وقدرات الاستيعاب المجتمعي على تجاوز هذه المخاطر، إضافة إلى تفهّم الشركاء الأوربيين لأهمية السلطة السياسية في ليبيا ونجاح الانتقال الديمقراطي في حفظ الاستقرار لضمان فاعلية الدولة واستمرار تدفّق النفط، بل ووقوف السلطات الليبية سدًّا منيعًا في وجه حركة الهجرة السرية وازدهار السوق الليبية لاستقبال الشركات الأوروبية ممّا سيسهم في التخفيف من وطأة الأزمات الاقتصادية في أوروبا.

14. يونيو 2014 - 22:10

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا