في الثالث والعشرين من شعبان 1435ه، الموافق للحادي والعشرين من يونيو/حزيران 2014م، ينتخب الشعب الموريتانيّ رئيسا جديدا لمدة خمس سنوات، حسَب مقتضيات الدستور. وقد ارتأيتُ، بهذه المناسبة،
أن أشارك الرأيَ العامّ الوطنيَّ في وضع تصور لانتظارات المواطنين من الرئيس الذي سيقع عليه اختيارهم، عن طريق الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية. وذلك بصرف النظر عن الآراء المختلفة، المؤيدة أوالمعارضة، لهذه الانتخابات التي قاطعَها ودعا إلى مقاطعتها جزء مهمّ من الطيْف السياسيّ، وأيّدها ودعا إلى الإقبال عليها جزء مهمّ آخَر. ومع أنّني كنتُ وما زلتُ من الداعين إلى حوار سياسيّ جادّ يفضي إلى اتّفاق على آليات تسمح لجميع السياسيين بالمشاركة في جميع الاستحقاقات الانتخابية، فإنّ الذي يهمني الآن- وقد جاوزنا تلك المرحلة- هو أن نفكرَ مَعًا-كلّ من مَوقعِه-في مرحلة ما بعد الانتخابات. ولِمَن يرغب في الاطلاع على وجهة نظري المتواضعة بخصوص الموقف السليم من المشاركة في الانتخابات- بصفة عامة- أو مقاطعتها، يمكن أن يرجع إلى مقال كتبته بمناسبة الانتخابات البلدية والتشريعية الأخيرة، بعنوان: "الانتخابات الموريتانية وسياسة الكرسيّ الفارغ"، ومقال آخر، بعنوان: "الانتخابات وشرعية التوافق".
أرجو، في البداية، أن لا يُنتَظَرَ منّي أن أضعَ أولوياتٍ مرتَّبَة ودقيقة للموضوعات التي سأتطرّق إليها، فذلك ليس في مقدور أيّ فرد مهما كان مطّلعًا على ما يجري في الوطن، بل هو من اختصاص مؤسسات الدولة القادرة على إجراء الدراسات، وتحديد الأولويات، ووضع المشروعات والبرامج، ورسم الخُطط اللازمة للتنفيذ، بناءً على الإمكانات المتاحة. وانطلاقا من هذا التّصوّر، فإننا ننتظر من السلطات الجديدة أن تكرّسَ مفهوم: سيادة القانون واستقلالية القضاء، إقامة دولة المؤسسات، المحافظة على القيم الفاضلة النابعة من ديننا الإسلاميّ الحنيف، ترسيخ الهُوية، تقوية الوحدة الوطنية واللُّحمة الاجتماعية، تكافؤ الفرص أمام المواطنين، المساواة في الحقوق والواجبات، حماية الحريات العامة...مع التركيز على أنّ: (العدل أساس الملك. والدول تقوم على الكفر ولا تقوم على الظلم). عندما يسود القانون وتتحقق العدالة، تتحقق تلقائيا الأمور المشار إلى بعضها، ونجد أنفسنا في مُناخ صالح للانطلاق في عملية البناء. ولا شك في أنّ عملية البناء تواجهها تحديات جَمّة، لا يتسع المقام لاستعراضها. ومع ذلك، فإنّ العمل الجادّ والنية الصادقة كفيلان-بتوفيق من الله- بتذليل كل الصِّعاب. ولعَلّ من الأمور الملحّة التي يجب على السلطات الجديدة أن تهتم بها وتوليها عناية خاصة: استكمال البنى التحتية الضرورية لانطلاق قطار التنمية، إصلاح التعليم الذي هو الركن الركين للتنمية البشرية والعلمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية...، النهوض بقطاع الصحة الوثيق الصلة بعملية التعليم والتعلم(العقل السليم في الجسم السليم)، مكافحة البطالة بإحداث فرص للتشغيل والإعداد الجيد للعنصر البشري ومُواءمة مُخرَجات التعليم مع متطلبات سوق العمل...
ولعلّي أركّز، في هذه الخواطر، على موضوع قد لا يخطر ببال القارئ الكريم أنه-على أهميته-يستحق أن ينال نصيب الأسد من هذه التصورات. إنه موضوع: النظافة. يقول أحد المفكرين: تُقاسُ درجة رقي المدن والشعوب بدرجة نظافة المَراحِيض. إنّنا شعب مسلم يحثه دينه الحنيف على النظافة، ومن ثَمّ فإنّ الأماكن التي تساعدنا على نظافة أجسادنا وتصحيح وضوئنا يجب أن تكون متوفرة ونظيفة، ولن يتأتى ذلك إلّا بتوفير الماء العذب الطاهر الطَّهُور. ومن هنا نفهم جيدا أهمية الماء(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)30/ الأنباء. بمعنى أنّ توفير الماء، ووصوله إلى كلّ حَنفية/ صُنْبور، شرط أساسيّ في المحافظة على النظافة. إنّ إحداث أماكن عمومية-على سبيل المثال- في المدن(دورات مياه/ مراحيض) شرط أساسيّ في المحافظة على نظافة هذه المدن. وهنا تطرَح مشكلة غياب شبكة للصرف الصحيّ في العاصمة، والتي هي مرتبطة أيضا بقضية النظافة. ولا ننس كذلك أنّ المحافظة على الصحة مرتبطة بالمحافظة على النظافة، ومن ثَمّ فإن تنظيف المدن وإزالة النُّفايات السامّة والقُمامات المملوءة بالجراثيم وما يتجمع حولها من ذباب وبعوض وحشرات ضارة، شرط أساسيّ للمحافظة على الصحة. وهكذا يرى القارئ الكريم أن القضايا المتعلقة بالنظافة تكاد أن تلامس جميع القضايا الحيوية بالنسبة إلينا جميعا، ولذلك فهي تستحق أن نوليها عناية خاصة. وقد أشرت، في هذا المجال، إلى أهمية الماء، وأريد أن أنبهَ على أنّ الكهرباء أصبحت-بعد الهجرة من الريف إلى المدينة- تنافس الماء في الأهمية، لما يتوقف عليها من حفظ للأطعمة وللمواد-بمختلِف أنواعها- من التلف، وما توفره من تبريد وتسخين، وربط بمجالات حيوية مثل: البث الإذاعي والفضائي والإلكترونيّ، والقائمة طويلة. ثم إنّ الماء والكهرباء، لا ينافسهما من حيث الأهميةُ إلّا الهواء الذي هو-بفضل الله- مَجّانيٌّ، لكن صلته بالنظافة لا تخفى على أحد لكثرة الأمراض والعِلَل والأسقام التي اكتشف العلم أنّ سببها الرئيسَ هو الهواء الملوث. وهنا أيضا نعود إلى موضوع النظافة الذي تكاد جميع القضايا تلف وتدور حوله، لأن النظافة تهم المأكل والمشرب والمسكن والشعائر الدينية والبيئة... كما أن هناك موضوعا يؤرّق جميع المواطنين والزائرين من خارج الوطن، أشرتُ إليه سابقا، ويتجسد في انتشار البَعوض"الناموس" في بلادنا، بصفة عامة، وفي عاصمتنا الفتية، على وجه الخصوص. ومن المعلوم أنّ البيئة المناسبة لتكاثر البعوض هي الأوساخ والمستنقعات. وبالإضافة إلى ما يسببه البعوض من إزعاج ومضايقة، فإنّ ارتباطه بحمى الملاريا الفتاكة المترتبة على لسعاته، يجعل مكافحته والقضاء عليه من أولويات المشروعات والبرامج الوطنية، بل إنّ الأمرَ يتطلب تنسيقا وتعاونا، في هذا المجال، مع الدول في شبه المنطقة ومع المجتمع الدوليّ.
إننا ننتظر من الرئيس الجديد ومن الحكومة ومن جميع المواطنين-كل فيما يخصه-بذل المزيد من الجهود الخاصة بقطاع النظافة في مفهومها الوطنيّ الواسع، وعلى مستوى انواكشوط، بصفة خاصة، حتى تكون لنا عاصمة حديثة يتوفر فيها الحد الأدنى من معايير المدن العصرية، على غرار ما يجري في العالَم المتحضر. إنّ المواطن الموريتانيّ القادم من الخارج-على سبيل المثال- يحلم بأنه عندما تحلق به الطائرة فوق مدينة انواكشوط يرى مدينة جميلة: بأضوائها ومساحاتها الخضر، وشوارعها الواسعة، وبناياتها المتناسقة في ألوانها وأحجامها وتخطيطها العُمرانيّ... وعندما يتجول بالسيارة، يجد: الشوارع المعبدة، والأرصفة النظيفة، والمحلات التجارية المزدهرة، والمكتبات وأكشاك بيع الصحف والمجلات، والملاعب الرياضية، والحدائق والمُتَنَزَّهات، ودُور الفن والثقافة، والمطاعم والمقاهي، ودورات المياه العمومية...وعندما ينزل بالفندق أو بمنزله الخاص، لا تكدِّر صفوَه الروائح الكريهة، ولا الذباب نهارا، ولا البَعوض ليلا... ولا يحتاج عندما يدخل الحمام أن يحمل معه الماء ليتوضأ به لأن الماء لا يصل إلى الحنفية بسبب ضعف ضغط شبكة المياه...فهل ستحقق السلطات الجديدة هذا الحلم البسيط للمواطن الموريتاني المتواضع المسالم ؟
إنّ المواطن الموريتانيّ الصبور القنوع، لا يطلب أكثر من أن يعيش حياة كريمة، تتناسب مع الإمكانات المعتبرة والخيرات التي يتوفر عليها بلده.
أعتقد أنّ السلطات الجديدة لو نجحت في تحديث عاصمة البلاد السياسية-في ضوء الملامح العامة المشار إليها-سيكون ذلك مؤشرا إيجابيا لنجاحها في جميع المجالات. حفظ الله بلادَنا من كل سوء، وأعانَ الحاكمين والمحكومين على القيام بواجبهم. إنه ولي ذلك والقادر عليه.