في هذه الأيام البهية من حياة وطننا الغالي، لا يسع الإنسان السوي إلا أن يكون على موعد مع التاريخ، فيظهر في الصورة الناصعة التي تتجلى فيها نهضة البلاد، رغم ما يشوب ذلك من أدران معترك الحياة الزاخر.
وعلى الرغم من أن الكثيرين من أصدقائي وخصومي
السياسيين في المعارضة والموالاة على مدى ثلاثين سنة الماضية قد اصطفوا اليوم على حد سواء جنبا إلى جنب في خندق "الثورة" و"الرفض" ودعوا إلى مقاطعة الاستحقاقات الديمقراطية الوطنية تحت مختلف الأسباب والمبررات، فإني سوف أسير ضد تيارهم كعادتي، وأدلي بصوتي يوم الواحد والعشرين يونيو إن شاء الله، وأختار الأفضل.
وهذه أسبابي:
1. إن الانتخابات التي هي عملية صنع القرار والتعبير عن إرادة الشعب في ممارسة إدارة وتوجيه الشؤون العامة لبلاده هي حق وواجب لا يقاطعه ويتنازل عنه إلا من كان لا يؤمن بالديمقراطية أصلا كالإرهابيين والفوضويين والعدميين، أو المتولين عن الزحف المعاصر.. ولست منهم جميعا. وقد تنتهج بعض الأحزاب السياسية المتمرسة تكتيك مقاطعة الانتخابات استثناء في حالات نادرة أبرزها: توفر بديل يقلب الطاولة على النتائج ويتجاوز حكم صناديق الاقتراع، وانعدام شروط النزاهة والشفافية التي تضمن صحة وحرية العملية الديمقراطية. وهما حالتان منعدمتان في الوضع السياسي الراهن؛ إذ لا توجد ثورة على الأبواب ولا يتوفر بديل لدى دعاة المقاطعة من جهة.
ومن جهة أخرى فإن شروط الشفافية والنزاهة القائمة في انتخابات اليوم تفوق بكثير - رغم بعض الأخطاءـ ما كان متوفرا في ظل الحكومة الائتلافية سنة 2009، ناهيك عن مهازل التسعينيات التي لم تقاطع منها المعارضة إلا القليل، وكانت خاسرة. وعليه فإن أسباب المقاطعة المعلنة هي في نظري أسباب واهية وخاطئة وغير محمودة العواقب.
2. إن بعض خصومي السياسيين ممن كانوا في قمة الموالاة في عهود مختلف أوجه نظام العاشر يوليو يتعجبون اليوم من "موالاتي" ويتأففون حسرة على عدم وجودي بينهم في خندق "المعارضة" وأنا "المعارض الأزلي" (كما وصفني بعضهم) منذ 1978 إلى 3 أغسطس 2005 ويتساءلون عما دهاني؟ وقد يوجد نفس الانطباع لدى بعض أصدقائي في معارضة عقود الجمر ممن "حافظوا" على مقاعدهم في "المعارضة"! ولكن لما ذا لا يتساءل أولئك وهؤلاء عن سبب إناخة أولئك في خندق المعارضة المبارك وتواجد واصطفاف هؤلاء معهم فيه؟ كيف نزل أولئك من صياصي الحكم إلى "حضيض" المعارضة وعماذا يدافعون وما ذا يريدون؟ ولماذا اصطف معهم هؤلاء في نفس "الحضيض" وقد كانوا ضحاياهم بالأمس القريب، وما ذا يريدون؟ عندها - وعندها فقط- سوف يستنتجون ببساطة أن سقوط سلطة العاشر من يوليو والثغرات التي فُتِّحت في نظامه الجائر هي سبب إعادة ترتيب الأوراق السياسية والاصطفاف الجديد! ولا يخرم هذه القاعدة الثابتة وجود أنماط بشرية جامدة لا تتغير ولا تنصرف! سألت أحد أصدقائي القدماء وقد التقيته صدفة: "أين تقف في المعترك السياسي الراهن"؟ فأجابني مزهوا على الفور: "من تخرج من مدرسة الكادحين لا يمكن إلا أن يكون معارضا"! مساكين الكادحون في نظر صاحبي: فصيلة سياسية منقرضة.. خلقوا للمعارضة والمعارضة فقط: لا يتغيرون، ولا يناورون، ولا ينتصرون؟!
3. إن الصرح الوطني الشامخ ـ الورشة الذي خرج من بين الرمال من رماده استقلالا ووحدة وطنية وتصالحا مع الذات وحرية وديمقراطية وبناء وطرقا معبدة وتنمية اقتصادية وماء وكهرباء وسياسات اجتماعية تعالج الفقر والتهميش.. الخ، يستحق الإشادة والدعم والدفاع.. ويستحق التوجه إلى صناديق الاقتراع كذلك!
أكيد أنه ما تزال توجد اختلالات كثيرة وثغرات كبيرة ونواقص عديدة وفساد ومفسدون يتربصون بنا الدوائر وأيد أجنبية تحث على التخريب. ولكن من المؤكد أيضا والبارز للعيان أنه تم إنجاز الكثير في مسيرة بعث موريتانيا منذ بزوغ حركة 3 أغسطس المجيدة؛ وخاصة منذ مجيء الرئيس محمد ولد عبد العزيز وانتخابه رئيسا للجمهورية الإسلامية الموريتانية. قد يدعي البعض أن الجيش هو الذي يحكم البلاد، وأنه إنما يعارض حكم الجيش. وهذا غير صحيح؛ فالجيش لا يحكم، بل يحمي ويراقب. وليس شعار معارضة حكمه سوى شعار من الماضي تم الجمود عليه من طرف بعض، وانتهزه آخرون في حربهم على الجيش الذي يحول دون تحقيق مآربهم بصفته المؤسسة القادرة - في غياب بعض المؤسسات الأخرى- على حماية الوطن. ويدعي آخرون أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز مستبد وديكتاتور.. وهذا غير صحيح؛ فالمستبد لا يطلق الحريات على مصاريعها ويترك مائة حزب ومدرسة تتبارى، ويفرغ السجون من متهمي الرأي ويوقف السفارات عند حدودها ويطرد إسرائيل!
4. بقي سبب رابع لا بد من ذكره؛ وهو أني لا مصلحة شخصية لي في هذا النظام ولا أطلب منه شيئا على الإطلاق، وقد صرحت بذلك علنا مرارا وتكرارا. وأن المفسدين وبعض بطانة السوء قد أوصدوا باب الرئيس في وجهي منذ أزيد من ثلاث سنوات، وخربوا – من ضمن ما خربوا- مرفق العدالة الذي أعيش منه، ثم وجهوا جناحا من مخابراته إبان فتنة المقال المسيء، للقضاء علي وعلى من له صلة بي دون أن ينبس أحد من الموالاة والمعارضة بكلمة حق وإنصاف.
ومع ذلك فإني أتحمل مسؤولية أخلاقية تقتضي إعلان موقفي مما يدور في وطني في شتى المنعطفات دون التفات إلى الجانب الشخصي؛ كما أم الصبي الذي أمر نبي الله بقَسمه نصفين بينها وبين مدعية. وغنيمتي وامتيازي أن الوطن بخير ويسير إلى الأمام في ظل الرجل.. وسوف أدلي بصوتي في من أجل ذلك ومن أجل تحقيق المزيد! صدقوا أو لا تصدقوا، فأنا أتفهمكم جيدا. وذات يوم عبرت عن موقف مماثل لأحد أصدقائي فضحك ولم يصدق؛ إذ في عرفه لا وجود لموقف غير مدفوع الثمن سلفا! أنها "عقلية" القرن الواحد والعشرين.