حَسْبِي بِأنَّي غَاضبٌ... والنارُ أولـُها غــَضــَبْ/ درويش
أين تكمن غائية الدولة؟ ! إن هذا السؤال هو الأكثر محورية في تلمس الإجابة عن سؤال محوري هو الآخر، هو السؤال: إلى اين؟
الدولة في النهاية ليست إلا وسيلة للحد من التناقض و تبعات التناقض الطبقي، سبيلا إلى تقليص و الغاء الفوارق بين طبقات المجتمع، وهو ما جعل من الدولة "كائنا حياديا"، وبما أنها كائن حيادي فسيكون من عوامل انهيار "هذا الكائن الحيادي" انحيازه لأي طرف على حساب الآخر، بل قد يدفع الطرف المظلوم إلى هدمه و تشييد كيان أكثر حياداُ منه. إن هذا الهدم وإعادة البناء هو ما يسمى في القاموس السياسي: بالثورة.
إن انحياز الدولة، مثلا، إلى طبقة المستثمرين، التجار الكسالى، (الذين لا يمثلون أكثر من وسيط لتبادل المنتجات، دون أن يكون لهم أي دور في العملية الانتاجية من أساسها) على حساب الفقراء، العمال، يعني أن الجهاز(الدولة)، الذي أنشئ ليعلو على الجميع، حاول أن يعلي طبقة على أخرى.
إن موريتانيا لم تشهد، والأكيد أنها لم تسع، يوما، لتحقيق العدالة الاجتماعية، ربما نظرا لغياب حكم قادة يحملون مشروعا مجتمعيا متكاملا، قائما على أساس فكري وإجتماعي وثقافي، مما كرس التمايز الطبقي، للحد الذي أصبح معه الموقع السكني للفرد يساهم في تصنيفه طبقياُّ .
يجثم سوق العاصمة في الوسط بين الغنى والفقر، وتمتاز الأحياء الواقعة شماله بالرفاه المادي، على حساب الأحياء الواقعة جنوبه، التي تيعش فقرا مدقعا، وواقعا هشا، ولكن الأكيد أن السوق ليس تلك "المنطقة الوسطى بين الجنة والنار" التي حسم نزار قباني بعدم وجودها !
إن هذا السوق مملوك للطبقات الواقعة شماله، وليس حدودا بين الجنوب والشمال، اللهم إلا إذا كان الامر يتعلق بالبعد الجغرافي، والتصنيف الطبقي.
يبلغ راتب رئيس الجمهورية (وهو الذي يقع منزله شمال السوق) 7 ملايين، فيما الحد الأدنى للأجور 30 الف اوقية وغالبية من يتقاضون هذا الراتب يقعون جنوب عدم الإستواء في توزيع الثروة المسمى: السوق.
قد لا يكون من الصدفة أن النظام حين حاول أن يرَحَّل بعض الاسر الفقيرة، دفع بها جنوبا، إلى حي سمي "الترحيل"، (بالمناسبة الترحيل: إسم لبرنامج أمريكي بدأ الإعداد له منذ 1995 يقضي بترحيل المشتبه بانتمائهم القاعدة، قسرا، إلى بلدان عربية، كان ذلك فيما 11 قبل سبتمبر 2001 ولكن كان الاستعداد له وتداعيته، و بناء على داراسات استشرافية).
كان بالإمكان أن يرحل النظام هذه الأسر، شمالا، أو شرقا ولكنه لم يشأ ربما لأنه قــُضي على الفقر والتهميش أن يكون جنوبا، تلك ذهنية كامنة في العقلية البرجوازية، فحتى الموتى يرقدون جنوب نواكشوط في الرياض !
الغريب أن الأمر يصادف تنظير "المركزية الأوروبية"، ذات الدوافع الذاتية، ففي الشمال، الذي تقع فيه تفرغ زينة ولكصر، كذلك تقع دول "المركز" المتقدمة (الدول الاوربية) وفي الجنوب تقع دول الاطراف، الأقل تقدما (الافريقية والاسوية). الأمر ذاته مطروح على مستوى الأمريكيتين: الشمالية والجنوبية.
والأدهى أن غالبية النزعات الانفصالية، التي تأتي غالبا بدافع التهميش، عادة ما تكون جنوبا،( كرستان في العراق، جنوب اليمن، جنوب السودان وكازمانس.... ).
لكن في موريتانيا بلغ السيل الزبى، ولم يعُدْ من المقبول أبدا تركُ الحبل على الجرار، لأن العدالة الاجتماعية تعني، في الصميم - فضلا عن دواعيها الاخلاقية- الوحدة الوطنية والتعايش في دولة المواطنة، التي تكفل للجميع حقه، وتسعى عبر التمييز الايجابي إلى إلغاء الفوارق بين مواطنيها.
إن الثروة للشعب، فيجب أن توزع بين الشعب بعدالة، وعلى الدولة، "الكائن الحيادي"، أن تشرع في وضع خطة متكاملة وليست بحجم "دكاكين أمل"، لإعادة توزيع الثروة بين الشعب الموريتاني، الذي ليس من المقبول أبدا أن يوجد أي من أفراده وهو يتسول عند ملتقى طرقٍ، مهما كان منحدرا من جنوب العاصمة أو شمالها، أو من جنوب موريتانيا أو شمالها، نازحا من جنوب الكرة الأرضية أو شمالها.