كلمة الإصلاح هذه المرة ستتوجه إلى مصير الإنسان الأخير بعد الموت لتبـين له أنه يمكنه أن يعرف في الدنيا هل هو من أهل اليميـن أو من أهل الشمال وبعبارة أخرى هل هو شفـي أم سعيد ، وإدراك ذلك يسـيـر على من يسره الله عليه.
فمن المعـلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر أن السعادة والشقاوة تكـتب في صحيفة المرء عندما يؤمر بنفخ الروح في جسمه في نهابة شهره الرابع في بطن أمه فقال أحد الحاضرين للحديث قائـلا : إذا ما هي نتيجة التعب في العمل؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : اعملـوا فكلــكم ميسر لما خـلق له .
والمتـتـبع للآيات القرآنية يدرك أن أكثر عمل أنواع الخير التي حث القرآن على الإكثار منها هو عمل خير الإنـفاق وأن أفضل زمن وأكثره لظرف هذا الأجر هو شهر رمضان .
ولذا جاء في الحديث المتـفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أجود ما يكون في رمضان عندما يأتيه جبريل يدارسه القرآن وكان يأتيه في كل ليـلة من رمضان فـلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود من الرياح المرسلة .
وبإمعـان النظر في فحوى هذا الحديث يتبــــــين جيدا أنه من دواعي زيادة جود النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر المبارك عندما يدارسه جبريل القرآن هو كثرة ما يجد النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن من الحث على الإنـــفاق في سبـيـل الله .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان وقافا ونـفاذا لأوامر ربه جل جـلاله عندما ما ترد في القرآن ولذا جاء في حديث عائشة رضي الله عـنها عـندما سئــــلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت : كان خـلقه القرآن .
فالآيات القرآنية اشتمـلت على عبارات تحث على الإنفاق لم ترد في القرآن لأي عبادة فريضة ولا تطـوع غيره .
وهذه بعض أمثلة من الآيات التي وردت فيها عبارات خاصة بالإنفـــــاق :
أولا : ليس في القرآن آية يطلب فيها المولى عز وجل من الإنسان أن يقرض له عملا ويعده بأن يضاعفه له أضعافا كثيرة ، إلا عمل الإنفــــــاق في سبـــيل الله .
يقول تعالى : (( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة )) وعـلق على هذا القرض بقوله (( والله يقـبض ويبسط وإليه ترجعون )) وهذا بالضبط هو معنى الحديث الصحيح الذي جاء فيه أن هناك دائما ملك يقول : اللهم أعط للمنفـق خلفا وهذا هو البسط من الله ويقول كذلك : اللهم أعط للمسك تــــلفا وهذا هو القبض من الله أيضا وفي آخر الآية التذكير بالرجوع إلى يوم القيامة .
ثانيا : لم يـذكـر للكفار وعدا بالويل على عدم أداء أي فريضة بعينها إلا الزكاة يقول تعالى : (( وويـل للمشركين الذين لا يؤتـون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون )) .
ثالثا : لم يذكر للإنسان عـتابا من الله على مجرد عدم الحض على أي طاعة إلا عدم حض الإنسان على طعام المسكين يقول تعالى: (( كلا بل لا تــــكرمون اليتــيم ولا تحـضون على طعام المسكين )) .
رابعا : لم يـذكـر القرآن أن طاعة بعـيـنها تكون عـقبة دون دخول الجنة وينبغي اقـتـحامها إلا عمل الإنـــفاق على المسكين يقول تعالى :(( فلا أقـتـحم العـقبة وما أدريــك ما العـقبة فك رقـبة أو إطعـام في يوم ذي مسغـــبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة )) .
خامسا : لا تعـنى اسم الفاحشة في القرآن إلا الزنا واشـتـرك معه في هذا الاسم عدم الإنـفاق فقط يقول تعالى : (( الشيطان يعدكم الفقـر ويأمركم بالفحشاء)) وهو هنا عدم الإنـفاق خوف الفقـر .
سادسا : أعطى الله مثـالا ماديا لمضاعفة الإنـــفاق من عـنده لم يضربه لأي طاعة أخرى وهو قوله تعالى : (( مثـل الذين ينـفـقون أموالهم في سبــيل الله كمثـل حبة أنبتــت سبع سنابــل في كل سنبلة مائة حبة )) وعلق في الأخير على ذلك بقوله (( والله يضاعـف لمن يشاء )).
سابعا : هي الطاعة الوحيدة التي ذكر الله أن إعطاء جزائها لصاحبها مثـل إعطائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع اختــلاف طبعا ما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يرضي غيره من البشـر المؤمنين من عطاء .
يقول تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ولسوف يعطيك ربك فترضى)) ويقول لمن أعطى ماله يتزكى وليس عنده من نعمة تجزى (( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى )) .
ثامنا : الإنــفاق هي الطاعة الوحيدة التي ذكر الله فعـلها سرا وعلانية وبما أن كل عبادة غير فريضة أفضل سرها من علانيـتـها إلا أن علانية الصدقة ذكر المولى عز وجل الإشادة بعلانيـتها بقوله فيها نعما هي وهي كلمة عليا في التـفضيل ولكن ذكر أن سرية الإنفاق خير من علانيـته مع أنها نعما هي يقول تعالى:(( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم )) وهنا أنبه المسلمين أنه هناك طاعتين ساعة فعل المسلم لهما يتخيل له أنه الآن يمشي في عرصات الآخرة من شدة فرحه بعمله هذا وهما : ما يفعله الولد لوالديه من أي عمل خير وكذلك ساعة حمله للصدقة السرية التي لا يعلمها إلا هو وعالم الغيب والشهادة فهذان العملان ليسا من عمل أهل الدنيا من شدة بردهما على الفاعل.
وعلى كل حال فإن أفضلية الإنفاق ومضاعفـتـه في رمضان لا يمكن حصر خاصيته التي نص عليها القرآن وثبــــتت في الأحاديث الصحيحة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثه عليه ، وأصعب على المؤمن سماع حديث في هذا الإنـفاق لخطورته على المؤمن هي قوله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات والله لا يؤمن قالوا : من يا رسول؟ قال : .
ومن ما يؤكد حرص القرآن على هذا الإنـفاق هو توضيحه لأصل ملك المال فالله يؤكد أن المال ماله هو جل جلاله وأن الشخص الذي عنده هو مجرد مستـخـلف فيه وليس مالكا حقيقيا يقول تعالى: (( وأنــفقوا من ما جعلكم مستـخـلفين فيه)) وفي آية أخرى (( وآتوهم من مال الله الذي آتيكم )) .
ولذا فإن من بين الأشـياء التي لا تزول قدم ابن آدم عن الدنيا حتى يسأل عنها المال فيقال له: فيم أنـفقه؟ ومن أين اكتسبه ؟ وهذا الحديث الصحيح ينبغي للمسلم أن يقف عند كلمة منه وهي فيم أنـفقه ؟ لأن الإنـفاق يجب أن يكون صورة طبق الأصل لأوامر الله وطبقا لوصف الله الكاشف الدقيق لمن يعطي له هذا الإنـفـاق أو هذا المال وفي أي شكل من أشكال العطاء .
فأكثر آيات الله تبـين من يعطى له هذا المال ليحصل لصاحبه الأجر المترتب عليه وهو الإضعاف الكثير .
وهذا التوضيح تارة يكون جوابا لسؤال وتارة يكون بألفاظ الحصر المعمول بها في اللغة العربية .
يقول تعالى : (( يسألونك ماذا ينفقون قـل ما أنـفقتم من خير فـــللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبـيل وما تـفعلوا من خير فإن الله به عليم )).
(( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قـلوبهم .....)) الخ الآية .
ويقول تعالى : (( وما تـفعـلوا من خير فإن الله به عليم للفقراء الذين أحصروا في سبـيل الله لا يستـطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغـنياء من التعفف تعرفهم بسيماهــم لا يسألون الناس إلحافا وما تــنفقوا من خير فإن الله به عليم )) .
وبهذا التوضيح البياني حان للمسلم الذي يخرج من يده ماله الحلال ويريد من الله أن يجزيه عليه في وقت هو أحوج ما يكون لهذا الأجر على هذا العطاء أن يتحرى أوامر الله وتوضيحه للمعطى له .
وعلى القارئ الكريم أن يستمع معي إلى هذه الآيات التي تضرب أروع مثال على الإنفاق على غير من وصفهم الله للإنفاق عليهم وخسارتهم في الآخرة وبـين الإنفاق الذي ينعم به صاحبه أعلى النعم في الساعة التي يتـنافس فيها المتــنافسون .
يقول تعالى في الإنفاق الخاسر صاحبه : (( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبـر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت )) .
بمعنى أن هذا الإنفاق الذي أعطي لغير مستحقه أصابته عند احتياج صاحبه له في الآخرة نار لإعطائه لغير مستحقه فأحرقته وبقي المرء في تـلك اللحظة لا أجر يرجاه في ذلك العطاء كما أن هذا العجوز الذي كان عنده بستانا محتاجا لثمره لينفق منه على أولاده الضعاف أصابه الإعصار الذي فيه نار فأحرقه وبقي العجوز لا حيلة له .
أما الإنفاق على ما من وصفهم الله فإن نتيجته الطيـبة الكبـيرة بـيـنــتها هذه الآية يقول تعالى : (( ومثـل الذين ينـفقون أموالهم ابتـغاء مرضاة الله وتـثـبـيتا من أنفسهم كمثـل جنة بربوة أصابها وابـل فأتت أكلها ضعفـين فإن لم يصبها وابل فطـل والله بما تعملون بصير ))
وهنا أنبه الموريتاني المسلم أن ماله الذي يعطيه طلبا للأجر يجب ألا يعطيه تبعا لعواطفه الشخصية التي لا يـتأكد قبـل العطاء أنه سيقع في يد من عينهم الله لهذا العطاء بلفظ الحصر أو جواب لسؤال عن من يستحق الإنفاق عليه .
إن الله قادر أن يقول في الآية التي حصر فيها بالوصف من يتصدق عليهم إنما الصدقات للفقراء والمساكين والأولياء والصالحين ولكن الله جعل اعطاء المال له سبب وهو الفقر والمسكنة أما الأولياء والصالحون فعندهم من الله عطاء لا يستطيع البشر أن يعطيه لهم لأن أي نفس لا تعلم ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون .
ولكن أسباب هذه العطاءات مختـلفة فإعطاءات الإنسان للإنسان محددة الأوصاف وإعطاء الله للأولياء والصالحين عطاءا خاصا لأجل العمل ولا يعمل إخلاصه إلا ه عالم الغيب والشهادة .
فالمال لا يعطي طلبا للأجر للعواطف ولا للحكايات ولا للروايات ولا للأماني ولا للتجارب ولا لوعد من لا يملك الموعود به حقيقة بل يعطى تبعا للنصوص المحكمة من القرآن والسنة وبذلك يستطيع المرء أن يدعو الله بقوله تبعا لوعده بالأجر (( ربنا وآتـنا ما وعدتـنا على رسلك )) .
أما إعطاء الأموال الطائـلة في مناسبات أخرى دنيوية مثـل الحملات السياسية أو الإعطاء للأشخاص الذين لم يعـينـهم الله لذلك فإن الله يقول في شأن ذلك: (( الذين كفروا ينـفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة )) .
وكل آية ذكرت وعيدا للكفار فهي تجر ذيلها كما يقول المفسرون على كل مسلم يعمل بالعمل الذي ورد فيه الوعيد .
وهنا أخـتم بقوله تعالى : (( فـليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فـتـنة أو يصيبهم عذاب أليم )).