جرت العادة على أنه كلما تم الحديث عن الوحدة الوطنية في بلادنا - ذلك الهم الكبير و المسؤولية الجسيمة - تتبادر إلى الأذهان وحدها مسألة المواطنين من الزنوج و تطفو على السطح قضية الإرث الإنساني دون سواهما من القضايا والمقومات الأخرى التي تدخل في صميم
تحقيق السلم الأهلي المنشود و إدراك الوحدة و اللحمة الوطنيتين المطلوبتين بإلحاح في منعطف تاريخي يعز فيه - خرقا لعادات الماضي - تجاهل كل إشكالات بناء الوطن العادل المنسية أو المقدمة عمدا قربانا لتهدئة عواصف بعض آخر من إشكالات منتقاة.
و إنه مما لا ريب فيه أن الخطاب الانتخابي الأخير الذي أدلى به المرشح الفائز في انتخابات 21-06-2014 الرئيس محمد ولد عبد العزيز في آخر مهرجان من مهرجانات حملته الرئاسية، الذي تم تنظيمه في حي "ملح" الشعبي بالعاصمة نواكشوط، كان حمال جملة من الرسائل و أوجه من القراءات الجديدة و تباشير تحول عميق و جريء في طرح كبريات القضايا الوطنية و بعث رؤى سياسية مبتكرة.
و إنه مما لم يفت مطلقا على أذهان المراقبين بإمعان لمجريات الحملة الرئاسية ما تضمنه خطاب المرشح لولاية ثانية السيد محمد ولد عبد العزيز من:
· جديد الطرح في المعطى الوحدوي على خلفية قدرة بادية على اقتناص مضامين خطابات المرشحين من حوله على تناقض بعضها و أحادية الطرح الاعتيادية في بعضها الآخر و بعدها عن تصور الحلول الناجعة لواقع يتسم بوجود تحديات حقيقية لم تعد تخفي وجه مستقبل قاتم لهذه الوحدة و ذاك السلم الاجتماعي ترسمه أهواء غير منصفة لا تحمل مع ذلك أية بدائل عملية أو مشاريع مجتمعية بأي وجه يسكت عليه.
و لما كانت الصورة قد انجلت عنده مرشحا لمأمورية ثانية فقد وعد بتطبيق مبدأ التمييز الإيجابي لولايات الوطن في معطى التنمية الشاملة بحلة متبصرة و واعية في برنامجه المقبل حتى ينعم البلد بتوازن أقل ما يمكن القول عنه إنه مختل و غير عادل لغياب هذه الرؤية.
و لا شك أن هذه الرؤية ظلت على الدوام غائبة مع ما كان و لا يزال من إلحاحية الأخذ بها بدء و اختتاما علما بأنه بينما أخذت الدولة الوليدة عند استقلالها في ستينات القرن الماضي منحنى ركز على توزيع مناطق الوطن إلى ولايات إدارية عرفت تزايدا فيما بعد من حيث العدد فإن ذاك قد تميز إما بواقع إقليمي أو بحدود جغرافية، تحترم كل ولاية حوزتها الترابية المحددة لها في الأصل بحكم القانون كما سبق و أن أورده بتفصيل متمكن في مقال لافت تجلى كل مضمونه في عنوانه "حضرة الشمال لسنا من دعاة الانفصال" لكاتبه محمد ولد سليمان ولد أمهاه حيث أماط اللثام عما كان من إعفاء هذا الشمال الحاضر بتاريخه المشرف و الغائب عن اهتمامات دولته في التنمية الوطنية و هو الزاخر بمعادن الحديد و النحاس و الذهب واليورانيوم و البترول والرخام و الحجارة الثمينة و معدن الكبريت و مناجم (سباخ) الملح؛ و هي المعادن الثمينة كلها التي تأسس بفضل استغلالها اقتصاد الدولة و وضعت بمداخيلها و شيدت أركانها، و أقصي من سياسة تهدئة المطالب الجهوية و العرقية في الجنوب و الشرق و كأنه شمال لا مطالب لسكان جهاته و لا يشكل بتاريخه و عطاء أهله نقطة ارتكاز إن اهتزت لا شك سيهتز كل البنيان و يتداعى.
أوليس هذا الشمال بحق، نواة و أصل الكيان التاريخي، المنسي في جوهر سياسة الدولة الحديثة هو أيضا منطلق "إلياذتها" العلمية و مهد "مقاومتها" الوطنية الفريدة بشهادة المستعمرفي قوة عطائها و منطلق المطالبة منها و بها لتحررها من براثن المحتل الغاشم و نيل الاستقلال بفضل بسالة و نباهة قادتها الأشداء.
و هل جنى و ما زال يجني هذا الشمال الصامد الصامت من معادن أرضه إلا الغبار المسرطن و الأمراض الفتاكة و فتاة الموائد؟
و هل من ضمانات للوحدة الوطنية و السلم الأهلي في هذا البلد دون رأي أهل هذا الشمال الصابر و مشاركتهم بما يليق بمكانتهم و دورهم الحضاري و حسهم المدني و قدراتهم على أداء واجبهم و تحقيق ذواتهم العالية بمثل العدل و الاستقامة بِناء على ما عرف عنهم من ترفع عن النعرات العرقية الضيقة و الخلافات الطائفية المبتذلة من جهة، و شغفهم بالبناء و التعمير و حبهم تشييد الصروح العالية بكل السواعد من جهة أخرى حتى باتوا مضرب الأمثل في ذلك و قبلة المتلهفين إلى العدالة و المساواة، و إن الشواهد و الإثباتات التاريخية على ذلك متوفرة و كثيرة.
من هنا فإن مراجعة النظرة السياسية إلى ولايات الشمال باتت ضرورية و ملحة في خضم الدعوات التي ترتفع باضطراد و تتكشف نواياها و تتشعب أهدافها و هي بالكاد تخفي نزوعها إلى شرذمة هذا البلد و الزج به في أتون مجاهيل غد تفوح منه رائحة الكراهية و التطرف و الغلو. و كما كان الشمال دائما مصدر إلهام الوحدويين فإنه ما زال متحمسا لكسر جماح أصحاب هذه النوازع الهدامة على الرغم:
· مما يعانيه أطره من التهميش و ضعف الحضور في الشأن الوطني من ناحية،
· و يحسه أهله من غبن كبير في دائرة توزيع مقدرات الدولة و غياب البنى التحتية الضرورية التي تناسب حاجته من متطلبات التنمية الشاملة حتى يتسنى له لعب دوره المُغيب في النهوض و الاضطلاع بمشاركته التاريخية التي لم يتخلف عنها يوما و يضع لبنته في صرح بلد ينشد الاستقرار و الوحدة لتجاوز مرحلة الخطر.
فكيف يعقل أن تتخطى ولايات الوطن شرقا و جنوبا حاجز الخوف من العطش بفضل كثرة نقاط الماء التي وفرتها سياسة أعطت أكلها في هذه الجهات و يموت شخص بالعطش في ولاية آدرار و هو متوجه سيرا من بلدته لاستقبال رئيس الجمهورية و حضور مهرجانه المنظم ضمن الحملة الأخيرة لرئاسيات 21 يونيو 2014؟
فكما تساءل من قبلي الكاتب محمد ولد سليمان ولد امهاه في مقاله المذكور و الذي أطلق إحدى صرخات أهل الشمال المكبوتة، فإن لسان حال الكثيرين منهم يسأل عن دوافع نسيانهم دون سواهم من إخوانهم في الجنوب و الشرق؟
صحيح أن أهل الشمال ليسوا دعاة انفصال و لكنهم دعاة توازن يرون أن السعي إلى تذليل العقبات التي تقف أمام تحقيق الوحدة الوطنية و السلم الأهلي أولى من أي أمر آخر ليتسنى الوصول في مرحلة أُولى إلى التخفيف من خطورة التهديدات الراهنة ثم التمهيد لاحقا للقضاء عليها.
كما هو صحيح أيضا أن سكان ولايات الشمال الموريتاني الذين صوتوا لمرشحهم فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز حيث أدركوا أنه يعي مشاكل الوطن والمواطن، فإنهم كذلك تابعوا و وعواما أدلى به في مهرجان "حي ملح" الأخير بنواكشوط من تصورات واعية لحاجة البلد إلى سياسة متوازنة تنصف جميع الجهات كل بما يرفعها إلى مستوى الدور المنوط بها و تحقيق العدالة بين ساكنتها و تحديد القواسم المشتركة بينها حتى تتداخل المصالح ليتحتم بالتالي تضافر الجهود باتجاه تنمية شاملة مشتركة. و ليس ما أفصح عنه الرئيس من عزم على تطبيق سياسة التمييز الإيجابي بحق ولايات الوطن إلا سبرا عميقا و إدراكا بعيدا لضرورة هذا التوازن بشأن ضبط مصير أهل البلد المشترك و التمهيد المنهجي لقطع الطريق على دعاة تهميش بعض جهات الوطن لحساب جهات أخرى بحجج انكشف زيفها و اتضحت خطورتها على وحدة و سلم أهليين كانا قد وجدا في الماضي أرضية خصبة في ولايات الشمال و ما زالا ينشدانه فيها كذلك.