يحتشد مئات من المواطنين الموريتانيين كل صباح أمام المعبر الحدودي المؤدي إلي دولة السنغال عبر بوابة مدينة روصو الموريتانية وقرية روصو السنغالية .وأغلب هؤلاء يحملون هموم الصحة وأوجاع الأمراض المستعصية وتلك المجهولة والمتوهمة ،
يحملون ما جمعوه من نقود و أمتعة ...وما إن تنقلهم العبارة الموريتانية أو الزوارق الخشبية السنغالية حتى يبدأ حصار متواصل يأتي علي النقود والبضائع وحتي الأنفس ...فمن ياتري يرفع الحصار عن هؤلاء المساكين والمرضي ! و مالسر في تسمية الموريتانيين في اللغة الولفية ب"نار"؟
"نار" لفظ يدل في اللغة الولفية علي الجنس الأبيض ويبدو أنه يصبح مضاعفا عندما يتعلق الأمر بالموريتانيين فهم : نار " كنار " في حين يطلق علي اللبنانيين نار بيروت وهناك نار ماروك وغيرهم ....
لن نستخدم هنا مقاربة عنصرية متداولة تقول :إن الأصل في التسمية هو النار الحقيقية التي كان الرعاة يوقدونها في الخلاء ، ويهتدي بها المنمون الموريتانيون علي أوكار السنغاليين فيهاجموهم ويقضوا عليهم ،حتي أصبحوا يخفون النار حتي لا يستدل بها عليهم المهاجمين القادمين من موريتانيا.
إن الأمر يتعلق بالمصطلح الولفي وليس دلالته في اللغة العربية ،ومايهمنا هنا هو أن تلك الفئة المسماة في السنغال ب"نار" تعاني من نيران كثيرة ،تبدأ بالوطن وظروفه ولاتنتهي بالغربة والمرض والنقود والسفر وعصابات التلصص المنتشرة علي امتداد الطريق وفي كل محطات رحلة المعاناة ..
أصل المعاناة منبعها:
يعاني قطاع الصحة في بلادنا من ضعف وتلاعب وفوضي جعلته يبقي عاجزا منذ قيام الدولة الموريتانية عن تقديم الخدمات الصحية علي المستوي المطلوب .ويتحدث المواطنون عن فساد كبير في عدة مجالات هي التي تدفعهم للذهاب إلي السنغال بحثا عن العلاج وأهم تلك الأسباب التي يجمعون عليها هي :
- تزوير الأدوية : حيث تنتشر الأدوية المزورة بكثافة ،مما يجعل من الصعب تمييز الأصلي من المزور ويضعف من فعالية الدواء الذي يكتبه الطبيب للمريض
- عدم توفر أجهزة الفحص الدقيقة و صيانة الموجود منها ،مما يجعلها تتعطل بين الحين والآخر وينعكس الأمر سلبا علي المريض.
- ضعف الوازع المهني لدي الغالبية من أطبائنا وانشغالهم بجمع الأموال علي حساب إجراءات الإستطباب المعهودة والتسرع في تشخيص حالة المرض وكتابة الوصفة دون تدقيق .
- الأخطاء الطبية المتراكمة نتيجة الفساد وسوء التسيير وبقاء أصحابها أحرارا من أي عقوبة رغم فداحتها، واستمرار التلاعب بأرواح الناس دون رادع من قانون أو شرع .
حصار النقود:
تمر الأوقية الموريتانية بتراجع متواصل منذ سنوات ، وقد وصلت في الأيام الماضية إلي 3300أوقية مقابل 5000إفرك (غرب إفريقي) و استقرت منذ أيام في حدود 3100 أوقية مقابل 5000إفرك . وهو رقم ضعيف ، يجعل تكاليف الرحلة إلي السنغال تتضاعف مقارنة بالأعوام السابقة ... ضف إلي ذلك مستوي الدخل لدي المواطن الذي لم يشهد زيادة تذكر واستمرار ارتفاع الأسعار والتلاعب الكبير أثناء صرفها في الأسواق السوداء (المتاحة للمواطنين )في انواكشوط وروصو وصرافات الموريتانيين في دكار.
الضرائب القانونية وغير القانونية :
أصبحت الآن بلدية روصو أكثر نشاطا من ذي قبل في جمع ضريبة السفر عبر البوابة بقيمة 40أوقية لكل مسافر ذاهبا كان أم عائدا . أما البوابة السنغالية فهي تأخذ من كل موريتاني يدخل من بوابة روصو مبلغ 2000إفرنك ومن كل من يخرج مبلغ 1000 إفرنك ..بالإضافة إلي ضريبة بلدية روصو السنغالية 200 إفرنك ..
أما الضرائب غير القانونية : فيأخذها علي الجانب الموريتاني بعض السماسرة الذين يتولون إكمال إجراءات الخروج ويجنبون المواطنين معاناة الزحام والفوضي المقصودة أمام مركز الدرك و الجمارك .وهؤلاء السماسرة هم زبناء رسميون لرجال الأمن الموريتاني يقومون بتسهيل إجراءات من يحملون أوراقه مقابل مبالغ كبيرة وغير محددة تؤخذ من المواطنين كل حسب مستواه المادي أو درجة استجابته لمطالبهم التي قد تصل مبلغ معتبرة 10000أوقية لإجراءات مسافر واحد.
وعند البوابة السنغالية يستقبلك نفس فريق السماسرة وقد انتقل معك إلي الطرف الآخر وبنفس العلاقات الوطيدة والتفاهم مع رجال الأمن في السنغال أيضا ..
الوصول إلي "خرور نار"
"خرور نار " لفظ آخر أكثر التباسا من الأول ويدل علي موقع داخل حي من أحياء العاصمة داكار(بيكين) يرتبط اسمه بالموريتايين وبه محطة نقل خاصة بالمسافرين ليلا إلي روصو ..ويضم منازل للآجار بمثابة نزل خاصة بالموريتانيين ..وتحتوي بيوتا ضيقة ومؤثثة أثثا بسيطا ورديئا وبأسعار تتراوح بين 10000إفرك و5000إفرك لكل يوم (من 6200أوقية إلي 3100أوقية)...وهناك صنف آخر من تلك المنازل يفرض ملاكه علي الموريتانيين دفع آجار شهر كامل(60000إفرك) مهما كانت مهمتهم لاتتطلب سوي يومين فقط...
مجتمع لبزوك وقصة المرافقة:
توجد جالية كبيرة تنحدر أصولها من شرائح اجتماعية موريتانية وقد أصبحت اليوم موزعة بين انتماءين أحدهما :- وهو الأقوى- لدولة السنغال وقيم المجتمع الولفي وثانيهما : للأصل الموريتاني وهو يوظف أساسا للاستفادة من المواطنين الموريتانيين القادمين إلي السنغال للاستشفاء ..ومن بين هؤلاء توجد مجموعة تمتهن مهنة الدليل الذي يرافق القادم حيث يريد.. مقابل مبلغ متعارف عليه يبلغ (3100أوقية )لليوم .وقد أصبح هؤلاء الأدلة يرتبطون بعلاقات مشبوهة مع العيادات الطبية وبعض الأطباء السنغاليين ويقومون بتوجيه المريض الموريتاني إليهم وجعله يدفع أموالا كبيرة دون مقابل ويعملون علي التلاعب بفحوصهم وحتى ترجمة كلام الطبيب ك:(إدعاء أن الطبيب أعطاهم موعد شهر أو شهرين لكي يضمنوا عودتهم من جديد ..) .
في الأسبوع الماضي كشفنا فضيحة مدوية كانت بمثابة البرهان القاطع علي ممارسة المرافقين(لبزوك والموريتانيين المشتغلين بهذه المهنة ) وتورط بعض الجهات الرسمية في المستشفيات والعيادات السنغالية .
حدث ذلك عندما سحب أحد الموريتانيين ثقته من مرافق شعر أنه يخدعه وطلب منا مرافقته إلي المستشفي الجامعي (أفان) وعندما وصلنا إليه ، أخرجنا ورقة وصل استلام مبلغ 150000إفرك مقابل فحص للدم وكانت المفاجأة عندما قالت السكرتيرة: إن الوصل ليس صادرا عنهم وليس مسجلا لديهم !عندها أخرجنا لها الفحوص التي تحمل خاتم المستشفي الجامعي ، فأظهرت دهشتها وقالت إن الفحص لايتطلب سوي 7000 إفرك وأن وصل المبلغ الذي لدينا مزور ، لكننا أخبرناها أن المبلغ دفعه صاحبه داخل حجرة في المستشفي وكان معه مرافق سنغالي (بزكي) بدا أنها تعرف المرافق جيدا ! فاتصلت عليه.. وحضر علي الفور... كان مرتبكا ..أخذ يستحلفنا بالله أن لانورطه ، وأن نعود إلي المنزل ...قبلنا علي مضض ،لأنه بدا ذليلا ومنهارا وقد رق له صاحبي ... عندما عدنا أخبرنا بقية الموريتانيين في منازل "خور نار" وأبلغنا المرافقين بأننا سنحيل الملف إلي الشرطة ...وفي مساء نفس اليوم اجتمع علينا عدد من المرافقين وطلبوا منا عدم تحريك الملف مقابل اعترافهم بذنبهم وتعهدهم بعدم العودة لمثل هذا التصرف ..وبعد أخذ ورد لم يكن أمامنا سوي الاستجابة لطلبهم والتخلي عن الشكاية لصالح أخوة الوطن (المزعومة)..
السفارة خارج سياق المحنة:
تحتل سفارة الجمهورية الإسلامية الموريتانية مساحة كبيرة في وسط العاصمة السنغالية ، ويوجد موظفوها في حالة سبات عميق لا تصلهم أخبار حصار المعاناة ولا يتدخلون بشيء في كل ما يجري من حولهم وكأنهم يعملون لصالح بلد آخر ...فلا تهمهم مظالم مواطنيهم ولا يعنيهم التلاعب بفحوص وعلاج أبناء بلدهم ولا يسألون عن ما يتعرض له المواطنون في نفس الحي الذي يتواجدون فيه ...
إن ما يتعرض له المرضي الذين يسافرون إلي الديار السنغالية طلبا للعلاج هو: محنة حقيقية ، تتطلب تدخلا جديا من السلطات العليا في البلاد ، وذلك من خلال:
- تحرير منطقة الحدود من سيطرة عصابات التلصص في روصو
- أن تتحمل السفارة الموريتانية في دكار مسؤولياتها اتجاه المواطنين القادمين للعلاج في المستشفيات والعيادات السنغالية من خلال استقبالهم وتوجيههم وحمايتهم من المتربصين بهم .
وأخيرا لابد من الاعتراف بأن السلطات السنغالية الرسمية لاتتحمل أية مسؤولية في كل ما يجري ، لأنه يحدث داخل الدائرة المغلقة للموريتانيين القادمين والمقيمين وبتنسيق خارج الأطر القانونية السنغالية التي تمنع بحزم تلك التصرفات وتعاقب عليها بصرامة .
إن الجهل والتخلف وغياب الدولة عوامل تضافرت لتجعل كل ذلك يحدث باستمرار ويتكرر دون أن ينتبه له أحد ...