صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر مفتتح هذا العام (2014) كتاب "بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين" للفيلسوف المغربي الدكتور طه عبد الرحمن وهو رجل واسع الثقافة متعدد المعارف، غزير الانتاج.
تبلغ صفحات الكتاب مع فهارسه ومراجعه 191 صفحة من القطع الكبير بخط متوسط الحجم. وتدور فكرة الكتاب حول نقد فكرة "فصل الأخلاق عن الدين" وبيان البؤس الفكري للفلاسفة الذين نظروا لها، ومقلديهم من المثقفين في أوطاننا العربية، وذلك في بابين وسبعة فصول.
يسعى الفيلسوف طه عبد الرحمن من خلال هذه الفصول السبعة إلى تفكيك مقولات الحداثيين، ونقد مشروعهم (الدنيوي) الذي توسلوا إلى إقامته بـ"آلية تفريق المجموع" أو قل "آلية فصل المتصل"، وذلك بفصل الدين عن مجالات الحياة.
ويسمي طه هذا العمل (بفصل الدين عن مجالات الحياة) بـ"الدُّنيانية"، التي تتخذ صورا متعددة منها فصل السياسة عن الدين، وهو "العلمانية"، ومنها فصل الدين عن العلم، وهو "العلموية"، ويرى الفيلسوف طه أن أشد هذه الفصول خطرا وأبلغَها أثرا هو "فصل الأخلاق عن الدين"، وذلك لأن (فصل الأخلاق عن الدين ينزع عن الأخلاق لباسها الروحي ويكسوها لباسا زمنيا). ويسمي طه هذا العمل بـ"الدهرانية"، ولا تعني عنده "العلمانية" (كما زعم الدكتور السيد ولد أباه في مقاله "الإسلام الأخلاقي أم الإسلام السياسي")، وإنما هي صورة أخرى من صور "الدُّنيانية" تختص عنده بفصل الأخلاق على الدين، كما تختص "العلمانية" بفصل السياسة عن الدين، وكما تختص "العلموية" بفصل العلم عن الدين.
ويتوسل طه في نقده للحداثة بمنهجه الفلسفي الذي أطلق عليه "النقد الائتماني"، وذلك أن تعريفه للفلسفة لا ينطلق من التعريف المتادول الذي يعرفها بأنها "المعرفة العقلية المجردة". وإنما يرى طه أن العقل ثلاثة درجات "عقل مجرد" وهو العقل الذي لا يعبأ بالممارسة الدينية، و"عقل مسدد" وهو العقل الذي ينطلق من الممارسة الدينية، ولكن اتجاهه الأفقي (يجعله يتعلق بظواهر الأشياء في اتصال وجودها بعضه ببعض)، و"عقل مؤيد" وهو عقل منطلق من الممارسة الدينية، بيد أن اتجاهه العمودي (يجعله يطلب خفي دلالاتها بالنسبة لوجوده). ويتأسس "العقل المؤيد" الذي تتحدد به الفلسفة الائتمانية على ثلاثة ركائز، هي "مبدأ الشهادة" و"مبدأ الأمانة" و"مبدأ التزكية". وعلى هذه المبادئ الثلاثة بنى الدكتور طه نقاشه (في هذا الكتاب لما تعاطته الحداثة من فصل الأخلاق عن الدين).
الدهرانية وإحلال الإنسان محل الإله
في الباب الأول من الكتاب ينطلق المؤلف من القاعدة التي قررها في مدخل الكتاب، والتي تقول إن العقل ليس (ذاتا مدركة مركوزة في داخل الإنسان، وإنما فعلا إدراكيا داخليا يصدر عن قلب الإنسان كما تصدر أفعال الإدراك الخارجية عن حواسه) ليؤكد أن (عقل الحداثة ليس عقل ما قبل الحداثة ولا عقل ما بعدها)، ملاحظا أن عقل ما قبل الحداثة (اختص بكونه يصل الأشياء بعضها ببعض)، على عكس عقل الحداثة الذي (اختص بكونه يفصل الأشياء بعضها عن بعض)، وأول ما بدأ ذلك الفصل كان بفصل "المتصل الديني" وفق تعبير المؤلف.
ويبين المؤلف -في الفصل الأول من هذا الباب- أنه يقتصر في هذه المقاربة على نقاش (الدهرية التي لا تعادي الدين المنزل)، منطلقا في نقاشها من ثلاث مسلمات، هي: "مسلمة التبدل الديني" و"مسلمة التخلق المزدوج" و"مسلمة الآمرية الإلهية".
وفي إطار هذه المسلمات الثلاث يعرض المؤلف الصيغَ الأربع للأنموذج الدهراني: "الصيغة الطبيعية"(جان جاك روسو)، و"الصيغة النقدية"(كانط)، و"الصيغة الاجتماعية"(دوركهايم)، و"الصيغة الناسوتية"(ليك فيري)؛ مبينا عوار هذه الصيغ وما تحمله داخلها من تناقض، موضحا (أن الدهرانيين لا يقصدون في بعض الأحيان بـ"العقلانية" سوى إحلال الإنسان محل الإله، وإسناد كمالات الجلال والجمال إليه).
ثم يبين -في الفصل الثاني من نفس الباب- ما تحتوي عليه هذه الصيغ الأربع من بؤس فكري فاحش، تمثل في (تصورات فاسدة عن علاقة الإله بالإنسان), وهي "التصور الخارجي" الذي غلب على الصيغة النقدية، و"التصور التجزيئي" الذي غلب على الصيغة الطبيعية، و"التصور التسيدي" الذي غلب على الصيغة الاجتماعية، و"التصور التجسيدي" الذي غلب على الصيغة الناسوتية". موضحا أن مرد هذا البوس الفكري هو "الجهل بالقدْر الإلهي" والاغترار بقدرة العقل، مؤكدا (أن الدهرانيين من أشد الناس جرأة على حرمة الذات الإلهية، وأكثرهم تطاولا على أسمائها وأوصافها، إذا لا يترددون في نسبتها إلى الإنسان، فيصفونه بالألوهية والربوبية والخالقية، ثم ينسبون إلى الذات الإلهية صفات الإنسان، فيصفونه بالضعف والقسوة والألم والعشق).
من التفكيك إلى البناء
بعد أن ينتهي الدكتور طه من تفكيك مشروع الدهرانية ورؤيتهم للأخلاق يشرع في بناء مشروعه الأخلاقي المستمد من الدين الإسلامي والذي يطلق عليه "الأنموذج الإئتماني" وذلك في الفصل الثالث من نفس الباب، ويقوم هذا الأنموذج على خمسة مبادئ رئسية، هي: "مبدأ الشاهدية الإلهية" التي هي أصل التخلق الإنساني، (فلولا شهادة الإله لهذه الأعمال وشهادته عليها لما تم للإنسان تخلق، ناهيك عن كمال التخلق)، والمبدأ الثاني هو "مبدأ الآياتية" ومقتضى هذا المبدأ (أن اتصال الدين بالعالم عبارة عن اتصال آيات، لاتصال ظواهر)، والمبدأ الثالث هو "مبدأ الإيداعية" ويُقصد بهذا المبدأ (أن الأشياء ودائع عند الإنسان)، ويقتضي ذلك منا (أن ننسب الأشياء إلى بارئها وشاهدها نسبة مطلقة، وإلا فلا أقل من أن ننسبها إليه قبل أن ننسبها إلى أنفسنا)، والمبدأ الرابع هو "مبدأ الفطرية" ومقتضاه (أن الأخلاق مأخوذة من الفطرة)، والمبدأ الخامس هو "مبدأ الجمعية" ومقتضاه (أن الدين المنزل كله أخلاق)، وذلك لأن (إنسانية الإنسان لا تتحقق بعقلانيته المجردة، وإنما بأخلاقيته المسدَّدة، ولم يَنزِل الدين إلا لكي يرقى بهذه الإنسانية بفضل كمال التخلق). وتُخرج هذه المبادئ الخمسة (الإنسان من مشقة التخلق إلى متعة التخلق)، و(من ضيق الظواهر وانفصالها إلى سعة الآيات واتصالها)، و(من التسلط على الأشياء إلى الترفق بها)، ومن (التخلق الظاهر إلى أصوله في أغوار الباطن)، ومن تخليق الإنسان لذاته بعضا إلى (تخليقها كلا، باطنا وظاهرا)؛ وبهذا تنتقل هذه القيم الأخلاقية إلى رتبة القيم الجمالية.
بعد هذا البناء لـ"الأنموذج الائتماني" يعود المؤلف -في الفصل الرابع من نفس الباب- من جديد نقد "مذهب الدهرانية" ليبين أنه مذهب بائس، فيه ظلم للدين وظلم للأخلاق وذلك بالفصل بينهما؛ بل و"ظلم لماهية الإنسان نفسها" لأنه نزل بها عن رتبتها نزولا بعيدا. موضحا أن الدهرانيين (بلغوا غاية الاغترار بأنفسهم)، وانزلوها (منزلة الإله!)، وأنهم لم يؤرقهم (شيء مثلما أرقهم المعنى الأمري الذي تحمله القواعد الأخلاقية حتى ولو جاء لفظها بصيغة الخبر؛ إذا لا يأنفون من شيء أنفهم من الطاعة لغير أنفسهم وأهوائهم، جاعلين منها السبب في مآسيهم ومساويهم).
"مفكرة الحداثة"
في الباب الثاني من الكتاب وضمن فصوله الثلاثة يناقش المؤلف المثقفين العرب، الذين يطلق عليهم "مفكرة الحداثة" ، وذلك لأنهم (لا يجدون مذلة، ولا شناعة، ولا حتى حرجا في تقليد الآخرين فيما استحدثوه من أنماط تفكيرهم)، بل أكثر من ذلك يسخرون أقلامهم وأفهامهم للدعوة إلى صواب ذلك التقليد (ووجوبه، وبث روحه وقانونه في نفوس مواطنيهم، ظالمين لتاريخهم وتراثهم، بل تأخذهم العزة بمساوئ هذا التقليد)، (فحسبهم من الحداثة ان ينقلوا عن غيرهم الفكرة تلو الفكرة، والعبارة تلو العبارة)، فصاروا بذلك "مفكرة للحداثة" تختزن من ينتجه الفلاسفة الحداثيون في الغرب وتخرجه كما هو.
ويبين المؤلف أن "المثقفين العرب" بسبب بؤسهم الفكري الغير مسبوق، وشعورهم بعقدة النقص التي لا تبرحهم ينساقون إلى إسقاط ذلك البؤس على تراث الأمة، ماحين من أفق تفكيرهم (وجود ثراء أخلاقي وروحي فيه)، مؤكدا أنه (لولا استنكارهم الحق واستحسانهم الباطل وتلبيسهم على القراء) لما اشتغل بالرد على أدلتهم المحجوجة.
ملاحظة أخيرة
وإذا كان لا بد من كلمة ختامية فإنني أشير هنا في نهاية هذا التلخيص أو القراءة إلى أن المشروع الفكري للفيلسوف الدكتور طه عبد الرحمن ظهير للمشروع التغيري لحركات "الإسلام السياسي" وسنده الفلسفي، وليس مقابلا له كما زعم الدكتور السيد ولد أباه في مقاله الآنف الذكر(مع وافر الاحترام والتقدير له ولمكانته العلمية)، ولست بحاجة هنا لكي أؤكد على ذلك أن أحيل القارئ إلى كتاب "روح الدين" الذين هو فصل مكمل لهذا الكتاب أفرده طه لنقد فكرة فصل السياسة عن الدين، كما أفرد هذا الكتاب لنقد فكرة فصل الأخلاق عن الدين، بل يكفي أن أنقل فقرتين من هذا الكتاب تؤكدان على أن رؤية طه الشمولية للإسلام تتطابق مع رؤية تيار "الإسلام السياسي".
الفقرة الأولى هي قول طه (في الصفحة 109) أن العلمانية (ظلمت الوجود الإنساني ظلما كبيرا، وذلك بأن ضيقت أطرافه أيما تضييق، فجعلت آفاقه المتسعة أفقا واحدا منقبضا، وعوالمه الكثيرة عالما واحدا).
والفقرة الثانية هي قوله (في الصفحة 137) (لقد قضى بعض المثقفين في أوطاننا ردحا غير قصير من الزمن وهم يلوون ألسنتهم بأول فصل عرفوه على وجهه المنقول، وهو "الفصل بين السياسة والدين" أو قل "الفصل العلماني"؛ ولا يزالون يخوضون فيه إلى حد الآن، ويتنازعون بلا نهاية من غير كثير جدوى إلا ما كان من اتفاقهم على مفهوم "الإسلام السياسي" الذي قلدوا فيه، هو الآخر غيرهم، وكذا اتفاقهم على تهويل أخطاره على شاكلة من يقلدون، حتى وجد منهم من يبرر ويؤيد، من غير استحياء، تنكيل الحكام بأهله ومناصريهم، طمعا في أن تتاح له فرص الاشتراك مع هؤلاء الحكام في التسيُّد على الناس).