لا أمقت شيئا في هذا العالم، أكثر مما أمقت المتلونين والمتذبذبين والراقصين على حبال السيرك: الناعون في الأعياد، الضاحكون في المآتم، فليس للإنسان السوي أن يتبدل بهذه السرعة، ويتحول بهذه الصفاقة الوصولية والارتزاقية…
طلع علينا الوزير السابق الشيخ ولد حرمه بفصل جديد في سلسلة مقالاته التي استمرئ فيها التخبط في حبائل الزلل، والتزحلق بين مكامن الخطل والخلل، مصورا نفسه صقرا بازيا لا حمامة زاجلة، ومتوهما سيرته نقيّة البياض، لا ملطخة بعلامات الاستفهام وأمارات الاستغراب والتعجب.
ولأن سيل هذه الحماقات، ظل يهدر جارفا، وإن تشابه في الفحوى والشكل، ولأنه بلغ ـ في خرجته الأخيرة ـ مبلغا لم يعد ينال من فرد، أو شخصية اعتبارية، أو جهة سياسية، فحسب بل ينال طيش سهامه وطنا بأكمله، فإنه لم يعد بالوسع السكوت، وإن ألزمنا خلاقنا النظر بعين العطف إلى الرجل مراعاة للحالة الإنسانية له.
لا مراء في أن مخرجات العملية الانتخابات الأخيرة، دون الدخول في تفاصيلها، قد آلت بالمعارضة المزعومة تقسيما وتقزيما وتجويفا، وقد أدت إلى انسحابات، وانشقاقات، نوعية وتاريخية من صفوفها، أهالت التراب على ما تبقى من اسمها ورسمها.
لذلك فلا عجب، عندنا، أن يسعى الذين لا أمل لهم بعد الآن في الحياة السياسية من إطلاق آخر صيحاتهم، في لحظات ما قبل النهاية، وأن يفصحوا عن دواخلهم ومحركاتهم الحقيقية، ويفضحوا مكنوناتهم ونوازعهم العميقة والخفية.
وهذا يقضي أن أتدخل، سريعا، لأختبر نظرية كثيرا ما تبنيتها ودافعت عنها، مدارها أن جل الحزازات والخلافات، والصرعات السياسية التي تدب في هذه البلاد، وتؤلب أبناءها بعضهم على بعض، وتستهدف كيانها الاجتماعي والسياسي، تعود إلى ضرب آلة الطمع جذورها، في نفوس النخبة المؤتمنة على هذا الوطن:
ولك أن تضرب طولا وعرضا في الأحزاب والشخصيات والهيئات السياسية، صعودا وهبوطا، ولك ان تنظر إلى وسائل الإعلام المحسوبة على طرف، دون آخر لتجد ما تحفل به طمس الحقائق وقلب الوقائع، والتطفيف، والارتهان للمصالح الوقتية والتكتلات الضيقة،ولا جرم أن ترى من قادتها وكبرائها، تبدل الحال، و الدور وأن تنقلب عندهم كل الموازين، دفعة واحدة ،دون سابق إنذار .
وتريد عبقرية الصدفة أن تصدر الحشرجات الأخيرة الناشزة، لجسم منتدى المعارضة الميت فعلا، على لسان صدح حتى انتفخت أوداجه بحياة ” فارس لا يخضع للإرجاف.. “رجل لا للصهيونية.. لا للفقر.. لا للقاعدة..”.. و على لسان من خاطب المنسقية المعارضة، نفسها، قبل أشهر قليلة قائلا: ” وما هي إلا أشهر معدودات ويقول الشعب الموريتاني كلمته.. ليركنكم مرة أخرى في زاوية ضيقة من حجم ما تسوقون.” قبل أن ينضم الرجل نفسه إلى “ركب الشيوعيين و اللائكيين الموريتانيين الذين يتوسلون إلى الله طلبا للتغيير”
ويزيدُ العجب أن يسيل كل هذا اللعاب القادح من فم توجه إلى زعيم المعارضة أحمد ولد داداه، ذات خطبة، يزجره وبقرعه ويذكره بأيام الله، ويدعوه إلى الطيب من القول وإلى صراط الحميد : “..فمقامك أسمى وأعلى من أن تدنس لسانك الرطب بتلاوة القرءان وصحيفتك البيضاء إن شاء الله بخطابهم. ولك في رسول الله أسوة حسنة فكان إذا استوجب فرد أو قوم منه ردة فعل قال صلى الله عليه وسلم: “ما بال أقوام” دون أن يخص المعني باسمه مهما عظمت فعلته.”
أستحضر، هنا، مثلا شعبيا موريتانيا طريفا يقول إن “الكتاب يأمر بالماء ويتحاشى لمسه” وكذلك مثل الشيخ ولد حرمه، الذي ائتمنه الرئيس على صحة ثلاثة ملايين أو يزيدون من أبناء وطنه، فباعها بثمن بخس دراهم معدودة وكان فيها من الزاهدين:
فيَا طِبّاً رَجَوتُ صَلاحَ جِسمي..بِكَفَّيهِ فَزادَ بَلاءَ جُرحي
مثل الذي رأى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية فقال هذا حزبي، فلما رأى الرئيس قال، هذا حزبي، هذا أكبرُ ، وانطلق، من يومه، يخطب ودّه بمهاجمة المعارضة جملة وتفصيلا ورميها بأبشع الأوصاف وأشنع النعوت، فلما تبيّن للرئيس فساده تبرء منه.
وحين استيأس الشيخ، بعد فترة من اللهث، طفق يجتر تهويمات وحذلقات لفظية، وتدبيجات افتراضية كتبت بحروف الوهم على ورق الإفلاس السياسي، لا تملك – على هزالها – امكانية بلورة تصور حقيقي وواقعي لرؤية سياسية جادة وناضجة، بل غاية مبلغها أن تهاجم أشخاصا كان الوزير يعدهم من الأخيار…
كأن الشيخ ولد حرمة لم يكن في الأمس وزيرا مطيعا مخلصا رهن البنان لمن يصفه اليوم بأبشع الأوصاف، ويكيل له ما طفحت به مخيلته من جديد السباب والشتائم، ناسيّا ومتناسيا ماضيه “الحانوتي”: “إن قادة المنسقية لم ينتبهوا لحجم الفحشاء اللفظية التي تتحرك بها ألسنتهم، إذ أن المتتبع لخطاباتهم يشعر بالشفقة وهو يشاهد هؤلاء الزعماء ينزلون في خطاباتهم وصيغهم إلى رتبة كنا نجلهم عنها مهما كانت درجة الحقد والكراهية الشخصية التي تملأ قلوبهم تجاه الرئيس محمد ولد عبد العزيز. ” كذلك قال ولد حرمه.
تتحقق الحتمية التاريخية للنظرية سالفة الذكر: وينضم إلى ركب المطبّعين والنهبَة رجل من صنفهم وينتسب إلى ناديهم وزير من طينتهم، طالعُ من صفقات التّراضي، والعمولة، وبيوع السمسرة والتطفيف، واللعب بوحدة البلاد وأرواح العباد، في نوادي القمار السياسي والملاهي البهلوانية.
يلتحق الوزير المنافح عن “رجل المصحف والمسجد والحرية، بجوقة الذين “يرددون كلمات تبرر استهداف بلدنا و قطع الرؤوس وسفك الدماء والاعتداء على الأموال والأنفس بشعار “حرب الوكالة” عن الصليبيين واليهود” يتنكر لماضيه “الحانوتي” وينبري لإعطاء دروس في الوطنية والشفافية، ثم لا يكتفي بذلك، فيخرج لنا رأسه من بين أكوام وثائق سايكس بيكو: يلعب الطبيب دور المفكر الجيوسياسي فيعمل مبضعه المفترض في خريطة الوطن مهددا بتقسيمه وشرذمته وتمزيقه إلى خمس دويلات..
يُهَدِّدُني بِقُبحٍ بَعدَ حُسنٍ…وَلَم أَرَ غَيرَ قُبحٍ بَعدَ قُبحِ
ابتلع ريقك سيدي الوزير، فلا خوف على الحمى الشنقيطي المكين، بل الخوف كل الخوف على منتدى المعارضة الدونكيشوتية، في حربها الأبدية ضد طواحين الهواء، فارجع البصر ـ رحمك الله ـ كرتين في حساب الصفقة، ثم ارجع البصر ، لعل ذاكرة حانوتية تنبئك أن جمع الأصفار لا يعدو أن يكون صفرا مكعبا، وأن تضافر الشّخصيات الفاسدة، والفارة من يد القانون وطائلة العقاب لا يتجاوز أن يكون تعصبا وقتيا لشرذمة الأشرار وأسراب الشياطين الذين جمعت بينهم المصالح، أو المفاسد المشتركة، ولا يعلو على كونه تحشّد غوغائيا لللصوص الغاضبين لجيوبهم وخزائنهم وحوالاتهم المصرفية.
قال تعالي: ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. التوبة.
ذكر الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، في تفسير هذه الآية العظيمة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
” بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما فينا ، أتاه ذو الخويصرة ، وهو رجل من بني تميم فقال : يا رسول اعدل ، فقال : ” ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ” ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه ، فقال له : ” دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى نضيه ، وهو قدحه ، فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم ، آيتهم : رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ، أو مثل البضعة تدردر ، يخرجون على حين فرقة من الناس ”
صدق الأمين.