هل أبلغُ من رمضان تشخيصا لمُعتل الواقع؟ / الولي ولد سيدي هيبه

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم)
صحيح أننا نمتنع طيلة شهر رمضان عن الأكل و الشرب و شهوة التمتع من الفجر إلى الغروب،

 كما هو صحيح أنه ثمة إصرار عند الكثير منا - و بفعل حميد - على حضور صلاة التراويح... و لكن ليس صحيحا أننا لا نتمتع و لا نفطر بالمال المشبوه سواء منه ذالك المُتحصل عليه بكل الطرق الملتوية من خزينة الدولة العامة نهبا أو تحايلا أو رشوة أو اختلاسا كما هو الحال تماما بالنسبة للمال الخاص المجني عنوة و باستغلال المناصب التسييرية و الوظائف المتقدمة و بالنفوذ و الربا و الاحتكار و المضاربات و رفع الأسعار لا لشيء في كلا الحالتين سوى بدافع الإمعان الأعمى في الكسب والتحصيل، و استغلال كل مورد أو مصدر للمال بشتى الأوجه الممكنة و المتاحة أو من فيض المنظمات التي تقع في الحبائل و الشباك إسلامية كانت أو عاملة في الميدان الحقوقي أو ناشطة في الحقل الإنساني و إن بخلفية تبشيرية... و إنه ليس صحيحا أيضا أننا نبالي و نهتم - بما هو مطلوب و واجب شرعا و من منطلق المنطق الإنساني حتى - بالفقراء و الضعفاء منا، ذلك بأن وجودهم شريحة على حالها من العدم و العوز و الفاقة و الاضطرار هو ما يبرر بـ"سادية" نشوة التمتع لدينا بهذه الأموال و يعزز النرجسية فينا و يمنحنا إكسير التلذذ بوهن الضعفاء و انكسارهم أمام القوة.
إنها وضعية نفسية تزداد مع اتساع الهوة بين الأغنياء و الفقراء و تتفاقم انعكاساتها بشكل ينذر بانفصام عرى اللحمة  الاجتماعية و انفكاك الترابط بين الأفراد و الجماعات في دائرة الأخوة التي نظمها الإسلام بحكمة بالغة و أوصل بها مراقي العدالة و المساواة.
و العجيب اللافت أن هذه الوضعية الاجتماعية و الحالة العامة المستشرية و الراسخة في أغلب العقول و الأذهان - إلا من رحم ربك - و السارية في كل مفاصل التعامل دون الانتباه إلى شذوذها أنما هي وضعية مناقضة لروح دين الإسلام بما تكشف عنه من تناقضات صارخة في المظهر و المعاملة و أنها بعيدة  بذلك كل البعد عن صميم تعاليمه القيمة استقامتَه دينا قيما. لا أحد يُنبه و لو من باب النصح العابر على ما تسببه هذه الحالة و ما قد تشكله من وضعية تضيع بها الأمة و تسبب خراب البلد، بما يجب و يلزم من مواقف التصحيح و التقويم و الضرب على الأيدي و التحذير و النصح و الردع و العقاب و ما يفرضه الواجب الديني و يمليه الوازع الخلقي و يبرره كذلك حدس حب البقاء. و إنه في هذه الإشارة إلى السلطة التي هي أول مسؤول عن كل ذلك أن تبدأ في ذلك التصحيح بنفسها في كل دوائرها حتى يصدق فيها قول الشاعر في بديع الحكمة:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها            فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
و ليس صعبا على من نهى النفس عن هوى المغالطة و التدثر بتفاؤل زائف إدراك أن الشارع الوطني كله ينطق صارخا بهذه الحالة الغير سوية و التي لا تتلاءم مع مقاصد الشهر المبارك سيما و أنه شهر صدق يفضح سقيم التصرفات بمبادئه الصارمة و مقاصده النبيلة في عدالتها سواء تعلق الأمر بمسلكيات الأفراد أو بتوجهات العموم، لا يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويحيط بها علما و لا يخفى تحت أضوائه الكاشفة أي تصرف خاطئ بكل درجات الزلات و الهفوات التي يمكن لفعل شاذ أن يتقمصها أو يتستر وراءها.
و لا يستوي هنا في هذه البلاد التي تَحمِلُ و أهلُها من كل الصفات، الحميدة و الذميمة علامات ظاهرة أو نعوتا مستحبة و مستهجنة أو أوصافا قيمة  و وضيعة، بذورا تنموا مع المقاصد و تحصد في كل المواسم ما تتيحه من تناقضات جمة في النتائج و إن يستوي الجميع في كل ما هو متاح من أسباب الحصول عليها.. فالأغنياء أغنياء جدا و كل سبل تعزيز قدراتهم على جمع المال و مضاعفته مكفولة لهم بفعل و تحت حصانة القوة و توفر أدواتها.. و الفقراء فقراء جدا و كل مسالك العوز مفتوحة أمامهم رغم سبق الإصرار عندهم على أن يكنوا ذات يوم أغنياء لا يسألون حينها كيف أصبحوا كذلك و لا يسألون كما كان حالهم كيف كانوا الفقراءَ و غيرهُم الأغنياء. هي سنة استنها الجميع و إذ لم ينكروا على الدين رفض كل ذلك فإنهم لم يأخذوا أيضا لعمل بمبادئه اللهم فيما يتعلق بالذي يُحمد فيه المظهرُ على الوجوبِ.
ففي شهر رمضان:
·        ترتفع أسعار  المواد الاستهلاكية و تتتضاعف المضاربات بشأنها،
·        و تنتقص كميات غاز "البوتان" المنزلي فيقع احتكاره من طرف الجهات و الأفراد،
·        و يتكرر انقطاع التيار الكهربائي ترشيدا من لدن المشرفين عليه و العاملين على توفيره فنيا للمحروقات التي تتم الاستفادة منها خارج دائرة خزائن الدولة.
·        تتزايد أعداد المحرومين و السائلين إلحافا و تغص بهم ملتقيات و مفتقرات الطرق و يزاحمون السيارات و المصلين عند أبواب المساجد و كأن الأمر عادي و لا يترجم واقعا أليما أو يفصح عن شرخ غائر في نسيج الأمة بين طبقتي الأغنياء فيه و الفقراء على أطرافه.
و في شهر رمضان الكريم :
·        لا يهدأ كذلك، و إن بفتور لا يخفي النوايا، قرع طبول السياسيين الذين لا هم لهم سوى البحث عن ذاتهم في أقبية القوة التي لا يرونها تتوفر أو تستقر عندهم إلا بالسياسة عند البعض والتزلف والنفاق و الانتجاع عند البعض الأخر من منطلق مفاهيمهم المعتلة و من قشور المنعة التي يسلبونها كرها من روحها الممزقة بمعاول هدم موسومة بعلامات الرجعية و العنجهية، يجعلونها ستارا بينهم و بين من هو دونهم من القوم،
·        و لا تهدأ المهاترات الكلامية و الملاسنات الحادة و الجريئة و السجالات الفظة و السقيمة التي كسرت في بذاءتها كل حواجز منظومة القيم و تحدت جميع اعتبارات السن و فارقه و داست على مكارم الأخلاق التي ظلت بشكل ما كابحة لجماح بعض جاهلية لم يحدث أن غابت تماما في أية حقبة مضت من كل تاريخ الأمة... المهاترات و السجالات و الملاسنات الكلامية التي تتلقفها و تحتفي بنشرها و توزيعها كل وسائل الإعلام و كأنها هدية من السماء.
·        و تتضاعف كذلك مظاهر الاحتفاء بالشهر "الضيف" في الشكل دون الروح و تختفي الرحمة و الشفقة أمام الغضب السهل و السباب لأبسط الأسباب و أتفه الأمور و السباق المحموم على الأسبقية في الطرق دون اكتراث بعلامات المرور و الإشارات الضوئية المنظمة له و لا بما يمكن أن ينجر عن ذلك من مخاطر تصل حد زهق الأرواح، بعيدين من أن يكون على رؤوسهم الطير في هذا الشهر الكريم الذي يشكل فرصة العام لتنقية الشوائب.
و لما أن كان كل ذلك مناف لخلق رمضان و روحه و بعيدا عن متن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم، إني صائم"، فإن مراجعة هذه الوضعية أولى من الصمت المطبق حولها و إن شهر رمضان يكاد يصبح على حال متصوفة الدراويش في تركيا حيث تحول تصوفهم من زهد في الدنيا و فناء في الخالق إلى مجرد فلكلور يتمتع به الجميع من أتراك و سياح أجانب.
لا بد من وعي هذه الحقيقة المرة و العمل بقوة لاستعادة الروح الزكية و المغزى العظيم لهذا الشهر الذي عظمه الله الخالق بأن أنزل فيه القرآن و يمتحن فيه قلوب المؤمنين الأصفياء أما م غرور متاع هذه الدنيا و يسبر فيه عمق اللحمة بين أفراد الأمة حتى لا تنزلق إلى مجاهل البغضاء و الشحناء و الحسد. و هو الأمر  الجليل الذي لا يمكن حصوله إلا عندما تكتمل شروط ثلاثة :
·        أولها أن تتبني الدولة الموقف الصارم المناسب سبيلا إلى تنقية أجوائه شهرا مباركا بقوة العمل الميداني و توجيه مرافقها و مراجعها الدينية التوجيه الصحيح الحازم و تدخلها المادي و المعنوي لدى مواطنيها لإصلاح مظهر الشارع العام حتى يلائم وجه الشهر المبارك؛
·        و ثانيهما أن تراجع كل مرجعيات البلد الدينية و السياسية و الاجتماعية و المثقفة ذواتها و أن تصلح من مواقفها و تمارس أدورها في حدود صلاحياتها و واجباتها بضمير حي و سمو يناسب مواقعها العالية؛
·       و ثالثهما أن ينسجم المواطن، من و في أي موقع كان و بأية صفة تميزه، مع روح الشهر الكريم و أن يتلمس فضائله الجمة و يوفيه حقه ضيفا قصير مدة الإقامة، عميم خيراتها، باقي بصماتها الفواحة بعطر الرحمة و شذى العدالة.

12. يوليو 2014 - 2:51

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا