حضرات؛ _المقدمون والعقداء أمس _الجنرالات اليوم _المشيرون غدا, بمناسبة الذكري السادسة والثلاثين للعاشر من يوليو المجيد, يطيب لنا بهذه المناسبة السعيدة ـ بوصفنا أحد أبناء جيل تزامن ميلاده مع مقدمكم الميمون, ولم يعرف طيلة حياته حاكما لهذا الوطن (الحلم)
سواكم ـ أن نستعرض وإياكم في عجالة أوضاع البلد طيلة عقود حكمكم الزاهر, ونراجع سيرتكم ومسيرتكم المظفرة في كل تلك الفترة, متسائلين: هل أن مؤسستنا العسكرية هي من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلد؟ وهل قادتها بطبيعة تفكيرهم وتكوينهم مؤهلون أو قادرون علي قيادة البلد, قيادة تضمن بقائه أحري بنائه والنهوض به؟!
ولتقديم الإجابة الشافية لكل التساؤلات المطروحة نبدأ من آخر أيام الحكم المدني وبالتحديد يوم: 03 / 07 / 1978, حين تحصل للرئيس المرحوم المختار ولد داداه اليقين بما يفيد حدوث انقلاب عسكري وشيك, وفق مذكراته, فبادر إلي عقد اجتماع للمسئولين العسكريين علي المستوي الوطني والجهوي استمر لمدة ثلاثة أيام طالبا منهم أن تسود الحرية المطلقة هذا الاجتماع ويعرب كل عن ما يدور في خلده, فلم يقدموا أي اعتراض حول ما يجري وإن بدئوا غير متحمسين, إلا أنهم استطاعوا إخفاء نواياهم الانقلابية بمهارة ونفاق, علي حد تعبير الرئيس, وقال متسائلا في نفسه أنا لا يمكنني تصور وطنيين وضباطا موريتانيين سيتركون مكاسب عشرين سنة من جهودنا تنهار خلال بضعة أيام..., وركز في ختام كلمته علي أمرين: أولهما _متابعة حرب التوحيد, والثاني _بالنص: (إدانة الرشوة, فقد أنذرت من أخاطبهم عواقب اختلاس الأموال الموضوعة تحت تصرفهم, وسوء تسييرها الذين أصبحا حديث الناس, وقد أعلنت لهم أني لن أقبل تصرفات سيئة كهذه, ففي الوقت الذي يكافح فيه البلد من أجل البقاء تزدهر الأعمال وتسود اللامبالاة واستغلال النفوذ, لقد آن الأوان للجم النفس ومحاربة الرشوة والسباق نحو الامتيازات والثراء الفاحش), وقد كان قرار الرئيس في هذا الاجتماع هو قول الحقيقة ولو كلفه ذالك كرسيه, وهذا ما يجب فعلا أن نتعلمه منه, فلا أقل من إنكار الفساد وتعرية المفسدين, والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن, وعدم الخنوع للابتزاز والغطرسة, فالسكوت علي الظلم تدفع الشعوب ضريبته ذلا وتخلفا لعقود قد تطول,
إن المسئولية الكاملة تقع علي عاتق من يحكم, فلا يمكنه التملص وتحميل تبعات فشله للغير, فإما أن يكون علي مستوي تلك المسئولية أو يتركها لمن يقوم بأعبائها ويتحمل تبعاتها, ولم يعد خافيا علي أحد أن العسكر ومنذ ذاك التاريخ هم من لديهم مقاليد الحكم, وليس غيرهم, وقد أتت أخيرا ما بات يعرف إعلاميا ب"حادثة أطويله" الغامض, لتدحض ادعاء من يحاولون التلبيس والقول بأن هناك ديمقراطية أو حكما مدنيا, لتبرهن بما لا يدع مجالا للشك أن الحكم عسكري بامتياز, حيث انتقل قائد الجيوش اللواء الركن ولد الغزواني فورا إلي القصر يتصرف كرئيس للبلاد عمليا وبرتوكوليا, متجاوزا الحكومة والبرلمان وكل الهيئات الدستورية, فأضحي رئيس الوزراء مجرد ساعي بريد لديه هو وأعضاء حكومته بحيث لا يملكون من الأمر إلا بقدر ما لديهم من العلاقة المنفعية بالضابط الفلاني أو علاقة المصاهرة بآخر, مما يعني أن الحكومة لا تعدوا كونها واجهة يعلق عليها فشل الأنظمة, فلا برامج أو رؤية سياسية أو اقتصادية لديها, ولا هي تملك حتى حق إبداء الرأي في أي موضوع مهما كانت تفاهته, أحري أن تناقش أو تتخذ قرارات تنبع من تصوراتها أو إرادتها المسلوبة,
أما الحديث عن الحريات أو الحقوق سواء تعلق الأمر بحرية الإعلام أو حرية الرأي والتعبير أو غير ذالك, فلا يتجاوز كونه عناوين لا وزن لها ولا قيمة في ثقافة العسكر, ولا أدل علي ذالك من أن ما قامت به وسائل إعلام حرة من جهود مشكورة في السنوات الأخيرة, من كشف شبه يومي للفضائح المدوية في هرم السلطة وفي المؤسسة العسكرية وفي القضاء والحكومة وغيرها, من فساد مالي وأخلاقي..., لم يترتب عليه أي شيء, فلا الإدعاء العام أو السلطات الحاكمة كلفت نفسها بحث الأدلة التي أوردتها وسائل الإعلام, ولا هي حققت في شأنها بشكل جدي, يؤدي ولو لمرة إلي استقالة حكومة أو وزير...! مما أفقد الإعلام دوره كسلطة رقابية, وأدي إلي إحباط لدي الإعلاميين انحرف ببعضهم وللأسف للاسترزاق بالمهنة النبيلة, ولعله أمر مقصود, أضف إليه شعارات: حياد الإدارة واستقلال القضاء ودستورية القوانين وهيئات الرقابة المالية والهيئات الدستورية التي هي مأمورة أصلا وليست مستقلة..., بحيث يتم توظيفها وقت الحاجة وتركل بالأرجل حين يتم الاستغناء عنها.
وعن الانتخابات الحرة والشفافة! فإنما تم القيام به منها وبالذات الانتخابات الرئاسية طيلة تلك الفترة تم وفق مقولة "هاكه وهي في أيدي" فلم يعد أمرها يهتم له أحد لأنه معلوم النتائج ومحسوم سلفا, وما يروج له إعلامهم من حديث عن الحريات والديمقراطية والتناوب السلمي علي السلطة فهو للإلهاء والاستهلاك المحلي والخارجي لا غير, فالعسكر مستميتون في الاحتفاظ بالسلطة, ومستعدون لأن يضيع الوطن ولا تضيع منهم السلطة, وجاهزون لخوض حروب لا هوادة فيها مع أي كيان أو فصيل مجتمعي يحمل مشروعا سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا... ينال قبول الشعب, فيصنفونه حينئذ في دوائرهم بأنه قوة صاعدة, وبالتالي تجب محاربته ووأده في مهده, فتحاك ضده المؤامرات, وترتكب في حقه أقذر الأساليب من دس وزرع للفتنة وافتعال للأحداث وخلق كيانات تربك المشهد وتشوش علي نصاعته, كالمحرقة, وظاهرة أحباب الرسول..., ولا يتورعون هم ومخابراتهم في تخوين هذا الكيان أو ذاك مهما كانت وطنيته, وإلصاق به تهم: الأجندات الخارجية والتآمر علي الوطن والإرهاب..., علي قاعدة " إن أردت قتل كلبك فقل مسعور! " فتحل الأحزاب والجمعيات والنوادي, ويطارد ويشرد أعضاءها ويسجنون وتصادر ممتلكاتهم ويضيق عليهم في أسباب الرزق ويحرمون الوظائف...,
أما التناوب السلمي علي السلطة فقد أصبح ميئوسا منه وهو ما حدي بالبعض إلي مطالبة الجيش الوطني, وبشكل صريح, بوصفه جيشا للجميع ويفترض فيه أن يحمي ويدافع عن الجميع أن يلتزم الحياد والمهنية, أو أن يسمح في المقابل للأحزاب السياسية في البلد بالحق في التسلح لتصبح قادرة علي منافسة "الحزب الوطني المسلح" في أجواء تتيح منافسة متكافئة,
إن علي المؤسسة العسكرية أو النواة الصلبة فيها أو الدائرة الضيقة مشتبكة المصالح والمرتبطة مصيريا, _والتي باتت تشكل كيانا اجتماعيا وماليا واقتصاديا..., يختزل داخله وطنا بأكمله, يسخره لنزواته ومصالحه الضيقة, مستخدما ضمن وسائل أخري تكفل له الاستمرار, أ ـ شبكة علاقات خارجية بعضها شخصي, يضمن من خلالها تسويق نفسه من قبل الدوائر الغربية والصهيونية, ولها كامل الطاعة ومحض الولاء, فهي التي أعتقت, ب ـ هالة إعلامية مأجورة وكاذبة, تصور المؤسسة بأنها وحدها من تحنو وتعطف علي هذا الشعب! وغيرها منافقون ومتهمون في دعواهم, _فعليها إذا أن تدرك أن أكبر دليل علي فشلها هو كونها لم تستطع طيلة قرابة أربعة عقود من الزمن أن تفرز للحكم من يصلح أن يكون قائدا لكتيبة, أحري أن يكون رئيسا لجمهورية يحمل مواصفات ومؤهلات الرئيس, من أولهم لآخرهم, من العقيد مرورا بالمقدم والعقيد الأول والثاني وصول إلي الجنرال, ثم تسلمه الوطن ليتفرد به هو وقبيله وجهته وحشمه وخدمه, لتظل هي تتلهي في إدارة صراع عبثي ضد مكونات المجتمع السياسية والنقابية والحقوقية والطلابية والمواطنين في الخارج..., وعليها كذالك أن تدرك أنها بتصرفها هذا أجرمت في حق هذا الوطن الذي أصبح عرضة للانفجار والتلاشي في أية لحظة, في وقت يعاد فيه رسم خريطة المنطقة من جديد علي أسس عرقية وإثنية وجغرافية..., مما يستدعي وجوب تحرك نوعي يشارك فيه الجميع بما فيهم الجيش الوطني, للبحث عن حل يجنب البلاد حصول الكارثة,
وختاما؛ فإن علي جيشنا الوطني, وبعد أن اتضحت الصورة أكثر وباتت الأمور شبه معلومة لديه أن لا يصم آذانه, ويقبل التفكيك, فنظام الكتائب الموروث عن القذافي فكرة جيدة للقضاء علي الجيوش الوطنية, ويحمل في طياته مخاطر جمة, فالنواة الصلبة غالبا ما يتصارع أصحابها صراع بقاء, علي حد وصف العلامة بداه ولد البصيري عليه رحمة الله, فيما نقل عنه, حين طلبوا منه إصدار فتوى بإعدام قادة انقلاب 16/ 03 / 1981, فقال "أنتوم ألا أكلاب لخل كله يوكل صاحب إلين يبق واحد" ولن أقحم نفسي في تلك الدوامة, ووفق متلازمة الصراع هذه فإن خطر الاقتتال بين الكتائب وارد حين تختلف قلوب قادتها, لذا وجب أن يبقي الجيش موحدا لتلافي مخاطر الاقتتال,
وأخيرا؛ فإن حصافة النفاق التي سادت هذه الفترة من عمر الوطن يجب أن تختفي وإلي الأبد, لتحل محلها مكاشفة أبناء الوطن وإخوة الدين, في إطار نقاش صريح ومعمق يشمل الجميع: ـ الجيش الوطني ـ الأحزاب السياسية ـ المجتمع المدني..., وفق برنامج إجماعي يعتمد آليات محددة للتنفيذ, ويسعي إلي تحقيق أهداف لعل أهمها من وجهة نطري: أ ـ إلزام الجنرالات وقادة الكتائب برفع اليد عن الجيش الوطني وإجبارهم علي تسليم السلطة لرئيس مدني يختاره الشعب علي أساس برنامج وطني يحاسب عليه وفق الآليات الديمقراطية ـ ب بناء جيش وطني, مهني وقوي, غير ملوث بالسياسة ولا تتحكم فيه جهة أو مجموعة, ولا تحركه أطماع داخلية أو أجندات خارجية, جيش لكل الموريتانيين, ضامنا لوحدة المجتمع وحاميا للحدود, ينتج سلاحه بيده, و يبقي الضامن للوحدة والاستقرار مع غيره كالقضاء والهيئات التشريعية والدستورية..., حين تستعيد الثقة بنفسها, ويتمتع الجميع بمعنويات تحرر طاقاتهم المكبلة, بفعل كابوس الرعب والطمع الذي كتم أنفاس المواطن وخنق الوطن, كابوس الجنرالات والسنين العجاف, وحينها يمكن أن نقول بأن لنا وطنا.