في ذكرى غزوة بدر الكبرى لا أود الإطالة بأحداث يعرف تفاصيلها أكثر الناس لكنني أرى أن ثمة دروسا وعبرا يجب أن ننتبه إليها وأن يعيها حق الوعي القادة السياسيون والعسكريون:
1- أن السبب الفعلي لغزوة بدر ليس طلب العير من طرف المسلمين وإنما كان ذلك سببا مباشرا تهيئة لهذا الاحتكاك أما السبب الفعلي فهو احتدام الصراع بين الحق والباطل الذي بدأ منذ 15 سنة كانت وصية الله إلى المسلمين كفوا أيديكم وكان منهج المشركين من أهل مكة شردوا وعذبوا كل من يقول ربي الله فألحقوا بهم ألوان الأذى من التعذيب والسخرية والقتل والإجراج من الأهل والمال والوطن.
وبعد هذه 15 سنة جاءت مرحلة {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير}، وكانت بدر الكبرى تدبيرا إلهيا {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين}.
والدليل على أن العير لم تكن السبب الحقيقي أنها نجت وعلمت قريش بذلك وعلم به المسلمون ومع ذلك صار الفريقان إلى القتال.
المسلمون يعلمون أن العير فاتت لكنهم وعدوا النصر (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)
وقريش خرجت لا لتحمي عيرا سلمت بفضل حنكة قائدها بل بطرا ورئاء الناس ليأدبوا من يعتبرونهم مجرد أكلة جزور مارقين (والله لا نرجع حتى نرد بدرا - فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا) فكانوا كما صور القرآن {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
2- من أهم عوامل النصر الاطمئنان على الجبهة الداخلية خاصة حينما توجد أسباب موضوعية لإمكانية عدم اقتناع بعض مكونات الجيش بالمعركة أو لاعتقادهم أنهم غير معنيين بها لذلك ألح النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بفوات العير على الناس بقوله أشيروا علي أيها الناس وقد تكلم المقداد وأبو بكر وعمر وأحسنوا لكن كل هؤلاء من المهاجرين الحانقين على من أخرجهم من ديارهم أما بنو قيلة (الأنصار) وهم أكثر الجند فليس لهم سابق عداوة مع قريش وبيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم على حمايته إنما هي داخل المدينة لا خارجها ولا سيما على بعد 150 كم فلما ألح بقوله أشيروا علي أيها الناس قام سعد بن معاذ الذي كان في الأنصار كالصديق في المهاجرين فقال لكأنك تعنينا يا رسول الله قال نعم فقال كلمته الخالدة: (قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق فأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقي بنا عدونا ، وإنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله)، فنشطه قوله ، ثم قال : (سيرواعلى بركة الله ، وأبشروا ؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)
3- من أهم عوامل النصر جمع معلومات العدو والقدرة على التحليل الموضوعي لها والحذر من أن تصدر منه أي معلومة قد تفيد العدو ولو اضطر إلى التعريض يقول علي رضي الله عنه: (سار رسول الله صلى الله عليه و سلم الي بدر وبدر بئر فسبقنا المشركون إليها فوجدنا فيها رجلين منهم رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط فأما القرشي فانفلت وأما مولى عقبة فأخذناه فجعلنا نقول له كم القوم فيقول هم والله كثير عددهم شديد بأسهم فجعل المسلمون إذ قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له كم القوم قال هم والله كثير عددهم شديد بأسهم فجهد النبي صلى الله عليه و سلم أن يخبره كم هم فأبى ثم إن النبي صلى الله عليه و سلم سأله كم ينحرون من الجزر فقال عشرا كل يوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم القوم ألف) ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم ببث العيون لجمع المعلومات بل خرج هو نفسه يستطلع الأخبار فركب هو ورجل من أصحابه قيل هو أبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أخبرتنا أخبرناك قال أو ذاك بذاك قال نعم قال الشيخ فإني بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش
فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نحن من ماء ثم انصرف عنه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال يقول الشيخ ما من ماء أمن ماء العراق.
وعلى مستوى قريش كان أهم عمل هو استطاعة أبي سفيان النجاة بالعير بسبب تتبعه للمعلومات وقدرته على تحليلها ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي سفيان وغيره فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء فسمعا جاريتين من جواري الحاضر تتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنما ترد العير غدا أو بعده فأعمل لهم ثم أقضيك فقال مجدي بن عمرو وكان على الماء صدقت ثم خلص بينهما فلما سمع بذلك عدي وبسبس انطلقا حتى أتيا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبراه ثم تقدم أبو سفيان العير حذرا حتى ورد الماء فقال لمجدي هل أحسست أحدا قال لا إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فأتي أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فأسرع إلى أصحابه فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيساره.
4- من أهم عوامل النصر الاستشارة والاستماع إلى أهل الخبرة فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بكل الاقتراحات الفنية رغم أنه رسول الله الذي يأتيه الوحي فنزل على رأي الحباب بن المنذر في تغيير المنزل وتغوير الآبار فشرب المسلمون ولم يشرب الكفار وقبل ببناء العريش المقترح من طرف سعد بن معاذ وكان مقر القيادة العليا يطل منه على المعركة ويصدر منه الأوامر.
أما قريش فقد كانت أهم ميزات قيادتها الاستبداد المطلق من طرف أبي الحكم عمرو بن هشام (أبو جهل) الذي كان يرفض كل الآراء ويعتبرها آراء انهزامية متخاذلة عن اغتنام فرصة القضاء على المسلمين (رد آراء عمير بن وهب وحكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة وانشق عليه الأخنس بن شريق ببني زهرة) ونظرا لخشيته من تزايد الاعتراضات فقد أغرى عامر بن الحضرمي بأن يندب ثأر أخيه عمرو الذي قتله المسلمون بسرية نخلة فأشعل المعركة بطريقة ارتجالية.
5- من أهم عوامل النصر التنظيم واستغلال المتاح من الموارد وتقوية الروح العسكرية في الجنود فقد صف النبي صلى الله عليه وسلم جنوده بدقة متناهية واختار للنزال خيرة فتيان الأنصار الذين يتوقع ألا يخسروا النزال لأن خسران المنازلة الأولى يصيب الجند بخيبة بالغة ولما رفض فرسان قريش أن ينازلوا غير بني عمومتهم من بني عبد مناف كان الاختيار على أشد بني عبد مناف شكيمة فكان منافسوهم رغم شدتهم أشبه باللقمة السائغة (رغم عطب أحدهم) مما فتح الشهية العسكرية للمسلمين وأنزل صدمة صاعقة على الجيش القرشي ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم يصدر التعليمات العسكرية (إن أكثبوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم). ثم عمد إلى تهييج العاطفة الإيمانية (والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة)
أما قريش فقد كانت خطتهم العسكرية تقوم على الهجوم لكنه هجوم صد في كل مرة بقوة ولم يستطيعوا لملمة الصفوف وتغيير الخطة وما إن بدأ الخور يدب إلى نفوسهم حتى صدرت الأوامر النبوية بالهجوم المضاد فكانت الحال كما وصف أحد المنهزمين وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يضعون السلاح منا حيث شاؤوا ووالله مع ذلك ما لمت الناس).
6- أن القوة الإيمانية الراسخة يمكن أن تعدل كل قوة مهما كان حجمها وهكذا كان نصر المسلمين في بدر مستحقا لأنهم حرصوا على الموت فنالتهم الحياة وحرص أعداؤهم على الحياة فتخطفهم الموت الذي لم يسلم منه إلا من أسلم رجليه إلى الفرار أو يديه إلى القيد.
لقد سطر المسلمون يوم بدر ملاحم عز وجودها في التاريخ فهذا يسقط جناحه ويقاتل به عامة اليوم (عوف بن الحارث ابن عفراء) وهذا يقتل أباه الذي يصر على مواجهته (أبو عبيدة عامر بن عبد الله با الجراح) وهذا يدعو ابنه للنزال (أبو بكر الصديق) وهذا يتمعر وجهه من أسر الرجال لأنه يريد الإثخان في القتل (سعد بنت معاذ) وهذان فتيان يسر كل واحد منهما السؤال عن قائد قريش ليكون له شرف قتله أو الموت على يديه أو دونه (معاذ بن الحارث ابن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح) وهذا يلقي تمرات في يده لأن فترة أكلها سجن طويل يحجز عن الجنة (عمير بن الحمام).
7- أنه حين يصدق الجند لله في سبيله ويأخد قادته بالمتاح من أسباب القوة من العدة والنظام والتشاور فإن الجند يستحق أن يستفتح لنصر الله الذي لا يتخلف عند توفر تلك الشروط وهكذا دخل النبي عريشه (مركز القيادة) بعد ما أكمل توظيف ما لديه من أسباب النصر المادي فناجي ربه وألح عليه مبديا الفقر والاستكانة والضعف (يا حي يا قيوم) (" اللهم إنك أنزلت علي الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني إحدى الطائفتين وأنت لا تخلف الميعاد اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك اللهم نصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة) (اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فتنزلت السكينة والنصر ونزل الملائكة تثيتا وطمأنة للمسلمين ونزل الرعب والخذلان على الكافرين رغم أنم استفتحوا ودعوا (اللهم أقطعنا الرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة) فكان الرد الإلهي: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِين) والحمد لله على أن قال مع المؤمنين ولم يقل أهل بدر أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لتبقى ظلال هذه المعية وارفة تغشى كل مؤمن ونرجو أن يكون لأهل غزة ومجاهدي زماننا من ذلك أوفر نصيب.