كتبت يوما في إحدى كتاباتي عن جرائم بني صهيون في غزة وفلسطين ولبنان أن:"السكوت العالمي إزاء المجازر في غزة جريمة دولية، والصمت العربي خيانة أمانة"، واليوم يؤكد لي التاريخ أن الأمور لا تزال على حالها، والصحوة الإسلامية والعربية
العامة لحد الساعة تبقى بعيدة المنال، مستحيلة الوصل والوصال.
نعم -ياسادتي- فالعدوان الجديد على غزة أكد على هشاشة الانسجام العربي، والإسلامي، وعلى أن الأمتين لحد الساعة لم تتعافيا من أخطبوط العار والهوان والدونية، بسبب التشرذم، والابتعاد عن النبع الصافي، الموجب للوحدة، وللشعور بأن المصير واحد، والجسد المنهك بالحروب والدمار واحد.
وهنا بات من المؤكد أن الوعي الناقص هو المشتت، والمباعد بين الراغبين في الغد الناصع، لأمة تتطاير في رياح الفتن الهوجاء، وتتداعى عليها الأمم، وتنخرها سوسة التمذهب مع ريح التغيير الكا ذب، والفوضى الخلاقة، وهي الحالقة، أي الموت بالنسبة لهذه الأمة.
فلقد سمعنا فتاوى سريعة ومتنوعة طالبت الشباب، والشيوخ والنساء بالجهاد في أوجه الحكام العرب، فانطلق المجاهدون والمعاندون رغبة في الموت والشهادة -حسب المعلن-، وتدمرت أوطان عربية، سرعان ما تدمرت للمرة الثانية والثالثة، وبدت السيناريوهات المتعلقة بالإنقاذ كلها مهلكة، واختفى شيء من بصيص الأمل، ودخلنا النفق المظلم، وتركت كل دولة للبنادق، والبيارق، والفيالق، وفيافي التحرير، والتبصير، وإبعاد مخاطر التنصير، فليبيا تحترق، ومصر تنزلق، وسوريا تصطفق، والعراق تختنق، وتونس والباقي من العرب عما قريب بالأزمة يلتحق.
وإذ دوى الرصاص والرش من السماء بالقنابل، وإهلاك الحرث والنسل في غزة، لم تجتمع القمة العربية كما كانت تجتمع لضرب طغاة العرب حسب الزعم، ولم نسمع فتاوى يصر أصحابها على الذهاب للإنقاذ، وإنما صرحت داعش أنها منشغلة في الحروب العادلة عن الحروب النافلة، متمذهبة في الدفاع عن الإمارة، ولا يهمها إهلاك الناس في غزة، فلا يستحق غزوة، وهي مصرة على طحن المزارات، والأضرحة نسفا وخسفا، ولن تصون رصاصها، ومتفجراتها للدفاع عن الآمنين المدنيين في غزة الصابرة، وتلك إذن هي أمتنا العربية والإسلامية المجيدة.
والجيش الحر المغوار ظل منشغلا بفتنة سوريا، الدولة العربية الوحيدة، التي مررت عبر التاريخ ترسانة سلاح لحماس، وحزب الله، وهو ما قد يعني أن الجهاد تغير مفهوما وطرحا، وصار ضربا لكل متمالئ، متواطئ مع المقاومة الفلسطينية، وهذا هو الخطر الذي سينهي العروبة، ويقضي على سلامة المعتقد، وسماحة الإسلام.
فالمعتقد أن إيران وسوريا هما الخطر المحدق بالعرب والإسلام على باطل في رأينا، لأن هاتين الدولتين أسهمتا في ردع الغاشم الغاصب، المتمثل في اليهود، ومعهم الغطرسة الأمريكية، كما أسهمت دول من أمريكيا الجنوبية مثل بوليفيا وفانزويلا والبرازيل بجعل كثيرين حول العالم يفهمون أن المجازر تستنكر، وتقطع من أجلها العلاقات، وتلغى الاتفاقيات مهما بلغت من الأهمية، والناس بالفطرة، والشعور الإنساني، الذين يتماشيان مع جوهر الدين الحقيقي، ومع فلسفة حقوق الإنسان يدركون أن القتل، والسحل، والعدوان، والحرب مناكر، وجرائم يجب أن تحارب.
لقد ابتعد العرب كثيرا عما يوحدهم، واستغرقتهم الخلافات التافهة، وصاروا غثاء كغثاء السيل، يتناطحون بينهم بسبب الخبز، والأهواء، ويتركون القضايا المصيرية لأن القمة العربية لا تجتمع لها، وليست موجهة ضد حاكم، يمقته حاكم آخر، يتمالؤ ضده مع الغرب، والشرق، ويستصدر الفتاوى، والفيتوهات ضده، ويقدم نشرة الأخبار المسائية دليلا في أروقة الأمم المتحدة، حيث تسمع لجان تقصي الحقائق في شأن إسقاط حاكم، ولا تسمع في شأن أمة يستهلك الحصار والعذاب والقصف حياتها، ويجرب فيها السلاح المحرم دوليا، والعالم يشاهد.
إن الجرائم في غزة تعلمنا أن العالم ليس مكان العدالة، والصدق، بل هو مكان السياسة والجور، وليس مكان أبسط قيم الحقيقة، بل هو مكان الباطل في معظمه، فالمحاكم الدولية ليست مستعدة للنظر في جرائم الحرب، والعدوان، والإبادة، والجرائم ضد الإنسانية، التي ترتكب في فلسطين، والسبب الواهي في القانون الدولي متعدد، فإما فلسطين ليست دولة وفق مفاهيم القانون الدولي المائعة، وإما أن مجلس الأمن لم يحل النزاع لمحكمة الجنايات، والمدعي العام لمحكمة الجنايات متذرع بالسببين الآنفين، والتفاهة بالغة مبلغها.
والجهاد العربي يقسم المقسم، ويؤزم المؤزم، ويقلم المقلم، وإسرائيل آمنة مطمئنة بأنها لن تواجه داعش، ولا الجيش الحر، ولن تضايقها فتاوى بالتوجه مباشرة لإسرائيل، وبذل الوسع في مواجهتها، ولا عبرة بعدم التكافؤ في القوة، ما دام الحق مع المجاهد.
ولعمر الله لقد شاعت الأباطيل، وتحكمت في حياة الناس، حتى انشغلوا بالفتن، والخذلان عن الحق الأبلج، ولجوا في سباتهم يتقاتلون بينهم، حتى صار السلاح العربي والإسلامي حكرا على الاقتتال الطائفي، وعلى الصراع بين الجماعات المسلحة، التي أنهكت الجسم العربي والإسلامي، وصارت عبئا على الحاضر، وخطرا يتهدد المستقبل.
والعجيب هو أمر المشاريع المعدة سلفا لقضايا الأمة، فتركيا لم تصبح يوما ممرا للسلاح صوب غزة، وفلسطين، ولا للجماعات الجهادية، ولكنها ممر آمن لكل ما يذكي الصراعات العربية العربية، كما أن مصر لا تزال سدادة في وجه كل محاولة لإيصال علاج، أو طعام لأسرى القطاع، فما بالك لو كان الأمر سلاحا.
وباختصار إذا كانت غزة اليوم تعيش تحت الحصار، فإن العرب يعيشون في العار، وتحت العار، والعالم أجمعه تحت نفس العار، لولا بقية أخلاق، وشيء من التقوى يفترض فيه أن يكون في العرب دون غيرهم، أو قبل غيرهم!