بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين ورضي الله عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
إلى فخامة الرئيس محمد بن عبد العزيز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد فموضوع حديثي معكم هو ملامح الحكم الراشد وعلائم النظام الفاسد
لعل في الحديث عن ذلك أداء لواجب النصيحة تجاه أئمة المسلمين وتذكيرا (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)
فأقول:
إن الله عز وجل أرسل الرسل وأنزل الكتب (ليقوم الناس بالقسط) وأمر الحاكمين إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل فقال عز وجل (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الإمام راع وأنه مسؤول عن رعيته فهو مطالب بما يطالب به الراعي تجاه الأغنام التي يرعاها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته" رواه البخاري ومسلم.
والإمامة كما يقرر علماء الإسلام "خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" فالإمام مسؤول عن حراسة الدين وحمايته وهو مسؤول عن سياسة الدنيا بالدين واتباعِ الشرع في جميع مناحي الحياة ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)
ومن مهمات الإمام الأساسية الأمور المذكورة في قول الله عز وجل (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)
فهو مسؤول عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهو مسؤول عن الأمر بالمعروف، وهو كل ما أمر به الشرع والنهي عن المنكر وهو كل ما نهى عنه الشرع، و لكن كثيرا من الحكام المعاصرين لم يفهموا مهمة الإمام كما حددها الشرع ولم يقوموا بما فرض الله عليهم تجاه الدين، فكان من آخر ما يهتمون به حمل رسالة الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيل التمكين له، بل وصل الحال ببعض الحكام المعاصرين إلى أن شنوا حربا شعواء على الدين وبذلوا جهودهم في الصد عن سبيل الله وسلطوا أجهزتهم الأمنية للتنكيل بالمتدينين والزج بهم في السجون وصار التردد على المسجد في كثير من بلاد المسلمين شبهة والتحجب جريمة وإعفاء اللحية مخالفة يعاقب صاحبها وصار هؤلاء الحكام يتقربون إلى أعداء الأمة بهذه الحرب، ويقولون لهم نحن السد المنيع أمام المسلمين وقد شفع لهم ذلك عند الكفار برهة من الزمن حتى جاءت( الثورة على الظلم) في تونس ومصر لتطيح بهم بعد أن استنجدوا بشركائهم فلم ينجدوهم (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)
لقد سقطوا بعد أن حاربوا الدين وأضاعوا خلافة سيد المرسلين وجهلوا أن (المستقبل لهذا الدين )
والإمام وكيل عن المسلمين، عليه أن يتصرف طبقا لمصلحة موكّله، وقد بين فقهاء الإسلام أن الإمام وكيل عن المسلمين فيما يقوم به من تصرفات ووضعوا لذلك قاعدة تقول (إن تصرفات الإمام منوطة بالمصلحة) وقد بين العلماء أن معنى هذه القاعدة أن الرئيس وغيره من المسؤولين لا يجوز لهم أن يتصرفوا استجابة للهوى وإنما يتصرفون اتباعا للنص وتنفيذا للأمر الشرعي أو يتصرفون استجابة لدواعي المصلحة التي يحددها الخبراء العارفون.
ولذلك فإن الإمام لا يجوز له أن يتصرف في المال العام كما يحلو له لأن الأموال العامة ليست ملكا للرئيس يتصرف فيها تصرفه في ممتلكاته الخاصة، ولذلك أفتى إمامنا مالك بن أنس رحمه الله تعالى الخليفةَ هارون الرشيد رحمه الله تعالى لما لزمته كفارة يمين أن يصوم ثلاثة أيام فلما استغرب هارون الرشيد هذه الفتوى التي تُلحِقه بالبائسين والمحرومين أخبره الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى بأن ما عنده من المال ليس له .
وبناء على ذلك فالرئيس يجب عليه أن يتعامل مع أموال المسلمين كما يتعامل ولي اليتيم مع مال اليتيم قال تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) فلا يجوز له أن يقرب المال العام إلا بالتي هي أحسن .
وهكذا فَهِمَ الخليفةُ الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الأمر فقال أنزلت نفسي من مال الله منزلةَ ولي اليتيم
فمن دعائم الحكم الراشد أن يتصرف الرئيس على أساس أنه وكيل عن المسلمين مُلْزَم باتباع النص ورعاية المصلحة في تصرفاته ، فإذا تجاوز المصلحة إلى غيرها كان خائنا للأمانة وكان تصرفُه باطلا.
وقد وقع كثير من الحكام المعاصرين في خطيئة كبيرة فتخيلوا أن من حقهم أن يتصرفوا في المال العام طبقا لأهوائهم، فأعطوه للأقارب والأصهار والأنصار، وهرَّبوه إلى الخارج فصرنا نسمع عن أرصدة خيالية لحكام يحكمون شعوبا بائسة محرومة.
(ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين )
وإذا كان هذا الوعيد للمطففين الذين يعطون الحق ناقصا، فما الظن بمن لا يعطي منه شيئا ؟ولقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد لمن يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل.
فعن خولة الأنصارية، رضي الله عنها، قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة. رواه البخاري.
ومن دعائم الحكم الراشد حسن اختيار المسؤولين ومراعاة القوة والأمانة عند التعيين والقوة في كل عمل بحسبه (إن خير من استأجرت القوي الأمين )
والمناصبُ أماناتٌ أمر الله أن تؤدى إلى أهلها فقال الله عز وجل (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) وأهلها هم أهل الكفاءة والاستقامة أهل الخبرة والأمانة .
ومن الاحتياط في هذا المجال الابتعاد عن تعيين الأقارب ولنا في الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسوة حسنة فإنه لم يعين من أهله بني عدي أحدا إلا رجلا واحدا هو النعمان بن عدي وكان ممن هاجر إلى الحبشة هو وأبوه ثم عزله بعد ذلك .
و قد توهم كثير من الحكام المعاصرين أن من حقهم تعيين من يشاؤون في المنصب الذي يريدون ثم تطور الأمر إلى أن صاروا يسلمون الأمانات- التي أمر الله أن تؤدى إلى أهلها- إلى أبنائهم وإخوانهم وأقربائهم وأصهارهم فهاهم الآن يعضون أصابع الندم بعد أن أطاحت (الثورة على الظلم) في تونس ومصر بالمعيّن والمعيَّن.
ومن دعائم الحكم الراشد الشورى، فقد وصف الله المؤمنين بأن أمورهم تتم بالتشاور بينهم لا بالاستبداد والانفراد فقال في صفاتهم ( وأمرهم شورى بينهم)، وهو شامل لأمرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وسائر أمورهم.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل البشر –بالشورى فقال ( ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر )
فاستفدنا من هذه الآية أن الوسيلة المثلى لجمع كلمة الأمة حول القائد هي: الرقة واللطف والتسامح والعفو والاستغفار لهم والتشاور معهم في الأمور.
كما استفدنا من الآية أن أسباب انفضاض الأمة عن القائد هي : الفظاظة وغلظ القلب والاستبداد بالرأي وعدم العفو والتسامح .
ولقد أمر الله عز وجل بتطبيق مبدإ الشورى في فطام الأطفال فقال عز وجل (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما)، فإذا كانت الشورى شرطا في فطام الطفل أفلا تكون الشورى شرطا في فطام الأمة؟ وإذا كانت الشورى شرطا في تدبير شؤون الأطفال؟ أفلا تكون شرطا في تدبير شؤون الكبار؟
وقد نبهَت الآيةُ على أهمية التراضي مع التشاور لأن الشورى في الشرع مبدأ مُحاط بمكارم الأخلاق وليست آلةً حادَّة مهمتُها القطعُ والحسم فقط.
وقد ارتكب كثير من الحكام المعاصرين خطيئة مُركَّبة من خطايا.. وهي أنهم أوهموا الناس أنهم يشركونهم في الرأي فسمحوا لهم بإنشاء الأحزاب والجمعيات ثم ملؤوا هذه التجمعات بالمرتزقة الذين يبيعون آخرتهم بدنيا الحكام، والذين لا رأي لهم إنما رأيهم ما يهواه الحاكم يرددونه كالببغاوات.
ثم أوهم هؤلاء الحكامُ الناسَ بأنه بإمكانهم أن ينتخبوا ممثلين عنهم يراقبون سير الحكومة ويسنون القوانين المطبقة للعدل فدخل الناس في الانتخابات ينفقون فيها الأموال والأوقات يحسبون أنهم يوصلون إلى هذه المجالس من يرضونه، ثم تبين أن العملية كلها خداع وغش وأن هؤلاء الحكام تولوا اختيار هؤلاء الممثلين ليقوموا لهم بمهمة محددة هي أن يصدقوهم بكذبهم ويعينوهم على باطلهم فكان هؤلاء الممثلون كما أراد الحكام لا يُحِقون من الحق إلا ما يريد الحاكم إحقاقه، ولا يبطلون من الباطل إلا ما يريد الحاكم إبطاله .
أما العناية بأمر الدين والسهر على الهوية والاهتمام بهموم المواطن والسعي لحل مشكلات المجتمع ومراقبة الحكومة وسن قوانين العدل فما جاء الحكام بهؤلاء الممثلين من أجل ذلك.
وكانت المصيبة الكبرى أن هؤلاء الحكام أنشأوا أحزابا يسوقون الناس إليها بالترغيب والترهيب، ويشعرون الناس أن الانضمام إليها شرط في التعيينات والترقيات وشرط في الحصول على المغانم المادية ويجعلون الابتعادَ عنها ورفضَ التسخير لخدمتها سببا في الطرد والإبعاد والحرمان.
لقد صار الفساد المحيط بتشكيل هذا النوع من الأحزاب يقتضي أن لا يسبق إلى الانتساب إليها المتمسكون بالمبادئ والقيم وأصحابُ الشهامة والكرم فنشأ من وجود أحزاب الدولة هذه شر مستطير.
إن على الرئيس أن يتخلى نهائيا عما يسميه الناس (حزب الدولة) لأن علاقته بهذا الحزب واستخدام جاه السلطة في الترويج له واستغلال موارد الدولة في خدمته يفرغ العملية من مضمونها ويحوِّلها إلى سباق عبثي، ثم ينتج لنا في نهاية الأمر حزبا من نوع حزب التجمع الدستوري التونسي والحزب الوطني المصري وحزب اللجان الثورية الليبي.
ومعنى ذلك الوصول إلى درك الانحطاط نعوذ بالله من ذلك.
وإذا تخلى الرئيس عن الحزب فإن ذلك سيضطر أنصار هذا الحزب المقتنعين بأهدافه المؤمنين بنبل مقاصده إلى استخدام قدراتهم المعنوية والمادية التي كانت معطلة بسبب توكلهم على رعاية الرئيس للحزب وعنايته به فيستفيد المجتمع من طاقاتهم التي كانت مهدرة، وفي الوقت نفسه يتفرغ الرئيس لخدمة الأمة كلها ورعاية الأمة كلها والقرب منها كلها والسعي إلى نجاحها كلها..
ومن دعائم الحكم الراشد القضاء العادل، ومهمة القضاء هي إيصال الحقوق إلى أهلها وإقامة العدل في المجتمع والفصل بين الخصوم، والقاضي مستقل في حكمه لا يجوز له أن يحكم إلا بالحق الذي أراه الله ولا يجوز له أن يتبع هواه ولا هوى الحاكم في الحكم قال الله عز وجل(..يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)
وعن بريدة عن النبى - صلى الله عليه وسلم- أنه قال « القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار . رواه أبوداود والترمذي.
والناس سواسية أمام القانون وعدم المساواة أمام القانون هو الذي أهلك الأمم السابقة، فعن عائشة، رضي الله عنها، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا، ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا، ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشفع في حد من حدود الله ثم قام فاختطب ثم قال إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة ابنة محمد سرقت لقطعت يدها.
هذا هو القضاء في الحكم الراشد لكن جاء بعض الحكام المعاصرين فجعلوا القضاء تابعا للحاكم وسيفا في يده يضرب به من شاء متى شاء وجعلوا القاضي المسكين تابعا، مهمته صياغة الحكم طبقا لهوى الحاكم فضاع الملك عندما ضاع العدل فالعدل أساس الملك.
ومن وسائل الحكم الراشد أن تكتب الأمة عقدا يجعل السيادة للشرع وينشر العدل ويمنع الظلم ويحمي الحريات ويبسط الشورى ويجلب المصالح ويدرأ المفاسد ويقف سدا منيعا أمام الاستبداد ويكون الهدف الحاضر عند كتابة هذا العقد هو مصلحة الأمة وتوفير البيئة الصالحة لقيام مجتمع راشد.
فجاء مرتزقة الأنظمة – على حين غفلة من المجتمع -يصمِّمون الدساتير ويفصلونها على أهواء الحكام فإذا بهذه الدساتير تُـؤلِّــه الحاكم وتجعل له وحده العقد والحل وتجعل الأمة منزوعة السلاح أمام حكام مدججين بأسلحة المواد الدستورية فكان عدم هذه الدساتير خيرا من وجودها وكان من علائم النظام الفاسد وجود هذا النوع من الدساتير، وقد أحسنت (الثورة على الظلم) في مصر و تونس حين ألقت هذه الدساتير في سلة المهملات.
وأخيرا فقد قال البخاري في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل "حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو المنذر الطفاوي، عن سليمان الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.