رغم أننا نجحنا في الإطاحة بالطاغوت، وفتحنا عهدا جديدافريدا من نوعه في العالم العربي. يدور اليوم جدل واسع، حول أسباب فشلنا فيما نجح فيه الآخرون، ونحن نواجه، بخطى عاثرة، تحديات "الانتقال السلمي" من لا شرعية العسكر،
التي طحنتنا عقودا، إلى الشرعية الديمقراطية، ودولة المؤسسات والقانون الموعودة.
وإذا كان شاعر فذ وعلاّمة مؤرخ موهوب، كالأستاذ المختار بن حامد رحمه الله، قد حسم جدلا مماثلا، دار في نهاية خمسينيات القرن الماضي، حول أسباب رسوبنا في امتحان الاستقلال الناجز(استفتاء" نعم" و "لا") ونجاح شقيقتنا غينيا فيه؛ مستخدما أسلوبا لبقا أرضى بلغة عصره (الشعر) كبرياءنا المهدورة، وطموحنا الذي لا يتناسب أحيانا مع قدرنا، حين قال:
"الفرق بيننا وبين غينـــــــــي ** باد، فلا يحتاج للتبييـــن
فغيني مليونان أو يربـونــــــا ** ونحن لا نناهز المليونا
وعند غيني من رؤوس المال ** ما ليس عندنا ولا لمالي"
فإن حسم جدل اليوم، أو حتى مجرد الإدلاء برأي معتبر فيه، لا بد أن ينطلق، مهما كانت لغته، من معايير جدية، أقل لباقة، وأكثر موضوعية، تتناول من بين أمور أخرى ـ ولنأخذدولةمالي التي ذكرها الشاعر لنا ندا، وتبنّى "ائتلاف قوى التغيير" تجربتها الرائدة نبراسا، مثلا ـ أربعة أسباب جوهرية، تقدم المقارنة فيها بيننا وبين مالي، الجواب الشافي على السؤال المطروح، وتلك الأسباب هي: أداء مهر الحرية، ومكانة العلم في الدولة، ثم الوعيالاجتماعي، فطبيعة الجيش.
أولا: أداء مهر الحرية
من بديهيات السياسة والتاريخ، كون الحقوق والمطالب الاجتماعية، لا تنال بالتمني والاستجداء، مهما واتت ظروف تحقيقها؛ وإنما تؤخذ غلابا. قال شوقي:
"وما نيل المطالب بالتمنــــي ** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"
والحرية، والديمقراطية، ودولة القانون التي نصبو إليها، ليست حقوقا فحسب، وإنما هي أيضا قيم حضارية ثمينة، لا يقتنيها، ولا يتمتع بثمارها، من "لم يسلبوها ولم يعطوا بها ثمنا"! وقد دفعت "مالي" ذلك الثمن من أرواح أبنائها ونهضة شعبها، يوم "أرادت الحياة" ودقت باب التاريخ باليد المناسبة، فاستحقت ما تريد، وانتزعت سؤلها ومبتغاها وحقها: دولة الديمقراطية والقانون والتناوب السلمي على السلطة؛ وخروج الجيش نهائيا من حياتها السياسية.
أما نحن.. فلم نمرر بشباك التاريخ، ونسدّد ثمن ما نصبو إليه، حتى نستحقه بامتياز! وكان حريا بمراقب الدولة أن يلاحظ ذلك ضمن ضروب التحايل والمغالطات والمخالفات التي تعج بها دفاتره "الحافلة"!
وقد يرى "البعض" في رصد هذه الحقيقة الصارخة، ضربا من تحبيذ العنف، أو نكرانا لتضحيات الشعب الموريتاني، أو تقليلا من قيمتها استلابا وتعلقا بتجارب الغير. وهذا غير صحيح! فنحن ممن أيدوا انقلاب الثالث أغسطس ونوهوا به وأشادوا بأن أبرز إيجابياته الكثيرة، كانت طابعه السلمي، ونجاحه في إبعاد شبح الحرب والفوضى الذي خيم في ظل الاحتقان السائد في البلاد عشية الحدث. كما ندرك أثر الاستياء العميق الذي عم كافة أرجاء وطننا في خلق الحدث، ونعرف أن شرائح لا بأس بها من مجتمعنا (الأحزاب الحقيقية والطلاب والمحامون والأئمة والجيش) قدمت تضحيات مهمة زلزلت عرش الطغيان، ومهدت للثالث من أغسطس، وجعلته ممكنا وضروريا، وحمته داخليا وخارجيا عندما تكالب عليه الأعداء.
ولكن هل يرقى كل ذلك إلى المستوى الذي يتيح التغيير الذي نصبو إليه، ويفرضه فرضا؟
قد يكون الجواب "نعم" في ظل الظروف الدولية والوطنية المعادية للانقلابات وأنظمة الطغم العسكرية، والحبلى بالديمقراطية والحكم الرشيد. لكن شريطة توفر سببين أساسيين هما: تبلور رأي عام واع ومنظم ومؤمن بحقوقه، ووجود قيادة وطنية حازمة ومصممة على إخراج وطنها نهائيا من الأزمة، والعبور به إلى بر الأمان وإرجاع الجيش إلى ثكناته. وبدون هذين الشرطين اللذين يشكل أولهما سببا للثاني، واللذين يرجحان الكفة لصالح التغيير ويسدان ـ كمؤخرـ مسد ما لم يدفع سلفا من مهر الحرية؛ سيبقى ما قدمناه حتى الآن دون مستوى المثمون. وفي تلك الحالة، قد يكون الحديث عن استحقاق ما ظفر به الشعب المالي، والتمتع بمزاياه، مع وجود فرق جوهري كبير بين الوضعين، ضربا من الخيال الساذج والأماني والأحلامالمضللة!
ثانيا: مكانة العلم في الدولة
وبمالي، لمن لا يعرف عاصمتها باماكو، الرابضة في حضن نهر النيجر الخالد، هضبتان صنوان متقابلتان: إحداهما تقل رئاسة الجمهورية، وتدعى "هضبة السلطة" (Colline de pouvoir) والأخرى تستوي على عرشها جامعة باماكو السَّنِيَّة التي زاوجت بين ما بلغه العلم في الشرق والغرب، وما حوته كنوز الحضارة الإسلامية في تومبوكتو العظيمة، وتدعى "هضبة العلم" (Colline de savoir). وتتبارى الهضبتان، في سباق سرمدي حميم، فتعلي "هضبة السلطة" شأن العلم، وتعنو لسلطانه؛ وتنير"هضبة العلم" درب "هضبة السلطة" وتكبح جماحها، كلما غفل أو زلّ السلطان! فالسفينة المالية إذن، كسيارة تعليم السياقة، تعمل بنظام تحكم مزدوج: يبذل القابض على عجلة القيادة جهده حسب قواعد "السير" ويمارس "المعلم" كبح هفوات "السائق" العابر الذي يجلس عن شماله!
أما نواكشوط فمدينة حديثة النشأة، نأت بجانبها عن واحات وهضاب الشمال حيث الإمام الحضرمي ومنظومته الاجتماعية، ومنائر شنقيط، ووادان، وجنحت غربا عن تلال ومروج تكانت والشرق حيث ببكر بن عامر، وما احتوت ولاتة وتيشيت وغانة (كومبي صالح) من نفائس ودرر، ولم تأو إلى الجنوب والنهر بما يرمزان إليه من علم وحلم وارتباط أزلي بالأرض؛ فطلعت في الهواء، تحاصرها الكثبان من كل حدب، وتجتاحها الزوابع من كل فج عميق. ولم يعد يوازي و ينافح جموح "هضبة السلطة" فيها، منذ أن استولى عليها الجيش، غير تلك "القواعد" الغربية المريدة الملاصقة.
وأدهى من ذلك وأمر كون "هضبة العلم" في بلاد المرابطين والإماميين قد انحطت في ظل العسكر أسفل سافلين؛ فأصبحت، بعد نبذ وهجرة الصالحين، حزمة مناهج خصية، ومؤسسات نخرة دعية، ناءت معظم كراسيها بالغَرِل والأغلف والأرعن، ممن أهّلتهم ورفعتهم طقطقات أيديهم في قداس عبادة هبل، ومنكر نعيقهم في موكب تسبيح صهبا، أو أواصرهم المتصلة بالدوحة الباغية! فهي إذن أوكار ومنابت للرذيلة... لا يعول عليها في غوائل الزمن، والنهوض بالأمة والوطن!
وما ظنكم بنابتة ما "كرّرت" نصوص "الألفية" و"خليل" على وبيص النيران، ولا تحفظ "الستي" و"الوسيط" و"أمهات لبتيت"(1) ولا إلمام لها بـ"أزوان" إطلاقا، ولم تقتبس شيئا من فكر النهضة أو تعاليم الأفغاني ومحمد عبده؛ ناهيك عن الثورة الفرنسية أو الفلسفة الألمانية أو أعمال شكسبير وموليير وهيغو وفولتير وروسو الذين لم تسمع بهم قط! وتلعن نزار قباني وادونيس ودرويش لكفرهم!
ولا تسألوا أين إشعاع أئمة شنقيط وفوتا الذي عمّ الآفاق، ولا عمّا بقي من أثر السلف الصالح الذين اتخذوا "ظهور العيس مدرسة"(2)... فمن لم يجنّد من خلفهم في سلك علماء السلطان، زج به في غياهب السجون، وعذب عذابا شديدا! إلا من رحم ربك، وهو خائف يترقب!
... ولقد صدق الرصافيّ حين قال:
إذا ما الجهل خيم في بلاد ** رأيت أسودها مسخت قرودا!
______________
1. لبتيت أحد مشاهير بحور الأدب الشعبي (الملحون).
2. إشارة إلى قول العلامة المختار بن بونا الجكني:
ونحن ركب من الأشراف منتـــظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرســـــة فيها نبيّـــــــن دين الله تبـــــيانا
أما الرجال فزنهم بالخــــطوب ولا تقم لنا العين دون الفعل ميزانا.