غزة: طوفان الدم وأكاليل الزهور / الولي ولد طه

على الضفاف الوادعة للأبيض المتوسط ، وعلى جنبات الأرض المباركة أرض الساهرة المحشرية بين السهول والهضاب الشامية المترعة اخضرارا ورخاء ، حيث بسمات الورود تداعب شموخ الزيتون والزعتر الذي يجلل أرض الجبارين ،

 هنا تلمع وتشع أعظم جواهر الكرامة والشموخ البشري في العصر الحديث ، فتبتسم الشجاعة والإباء ملء الأفواه ، ويتشامخ الوفاء عملاقا ، وينتهب الإقدامُ مهابطَ غزة وذراها .

معروف أن غزة من أهم مراكز أجاويد الورد على مستوى العالم ، وما زالت ورودها تطّبي فتيان وفتيات أوروبا ، حيث تعتبر عند الهولنديين وغيرهم من أثمن هدايا عيد الحب ، ولعل عبق الورد ورقرقة النمير في جداول الخمائل الغزية قد صبغ الوجدان بقيم مشهودة من الحب والرحمة والرقة لدى الغزيين ، وربما هي تركة أنصارية "إن الأنصار قوم فيهم غزل" وهي قيم بلا شك تصفو وتزكو وتتأصل بما عرف عن أهل غزة من التبتل والاطراح بين يدي الله ، وحسن معاشرة القرآن، حيث تسجَّل هناك أعلى نسبة لحفظة القرآن في العالم .
بجنب هؤلاء المتبتلين والمحبين العشاق ، استُنبتت عصابة من اللصوص وشذاذ الأفاق ، تنادوا على حسد وحقد بدعم من قوى الاستكبار في العالم ، تمدهم بكل أسباب المنعة والقوة بسخاء عز نظيره ، فجرعوا الأمة عقودا من البطش الأليم ، إبادة وتشريدا وأسرا لفتيان الحمى وربات الحجال وبراعم الأمل ، ولئن ظلت المواجهة مع العصابة اليهودية الصهيونية قائمة إلا أن الأمة ظلت تتجرع الهزائم ، لأنها في أكثر الاحيان تواجه صلابة التخطيط والكيد عند العدو بفورات عاطفية تُنحي الحكمةَ والتخطيط العقلاني .
غير أن شمسا جديدة ولدت في الأفق العربي القاتم مع جيل أحمد ياسين وكتائبه القسامية ، حيث بدا أن الحب والرحمة ثمرتان في نفس العنقود الذي يثمر الشجاعة والحنكة والإباء ، وهو أمر يذكرني باستنتاج بعض دارسي الأدب العربي القديم أن كل العشاق العذريين كانوا شجعانا لا تلين لهم قناة ، أمثال عنترة بن شداد والمرقش الأكبر والحارث بن حلزة ، وقد أكد فلاسفة الأخلاق أن قيم الخير سلسلة متصلة الحلقات كل حلقة منها تمد الأخرى ، والشجاعة والحنكة والإباء والحب والرحمة كلها قيم خير .
بسطوع شمس حماس دب في جسم المقاومة الفلسطينية نسغُ الحياة ودم التجدد وماء النماء ، فدخلت المقاومة عالما من التخطيط والإبداع وصلابة المواقف بعد سلسلة من التراجعات معروفة المسار والتاريخ.
ضربت العصابة الصهيونية حصارها جوا وبرا وبحرا ، فأبدعت المقاومة بأن اتخذت في بطن الأرض سبلا ذللا نحو العدو قتلا وأسرا ، ونحو أرض الكنانة ــ التي أكمل فيها سارقو أمل الشعب المصري طوق العدو ـــ جلبا للميرة والدواء والعدة .
ولئن حاولت عصابة الصهائنة وسارقو أمل أرض الكنانة قطع تلك السبل، فإن من أبدعها سيبدع غيرها ، إن إبداع المقاومة الفلسطينية يطمئن أن طوفان الدم الهادر في شوارع غزة لن يذهب هدرا ، وأن الصواريخ التي تدك ذُرا تلابيب وحيفا واسدود وعسقلان من خلفها عقول تمتلك القدرة على التطوير لتجعلها أكثر إيلاما للعدو الذي آلمته اقتصاديا وأنهكته نفسيا بما قتلت من جنوده ، وبما أدخلت عليه من الخوف والفزع ليتوازن الرعب لأول مرة في الصراع مع الصهائنة .
ـــ غالبية المواقف العربية الرسمية محزنة جدا ، وأحيانا خبيثة جدا حين تسوي بين الأخ المظلوم والعدو الظالم ، غير أن الغريب في بعض هذه البلدان هو موقف بعض المتكلمين بالدين من المفتين الذين يرخصون للحكام ، بل يغرونهم بالولوغ في دماء وأعراض شعوبهم قتلا وأسرا وتنكيلا ، محتجين بمقولة : [يُقتل ثلثٌ لصلاح ثلثينٍ] وهي مقولة منكرة لإمام الحرمين أنكر جميع أصحاب مالك رواية إمام الحرمين لها عن مالك كما قرر ذلك محنض بابه حين قال :
وبعض مذهب إمامنا على     رعْي المصالح انبناؤه جلا
حتى روى عنه إمام الحرمين   يقتل ثلْث لصلاح ثلثين
وما إمام الحرمين ذكره    جميع صحب مالك قد أنكره
وهو مخالف بدون مرية   لمقتضى القواعد الشرعية
فلا تكن لمالك بناسبه    خوفا من اغترار بعض الناس به
فقتل ثلث المفسدين لصلاح    ثلُثهم لم يك بالأمر المباح
وهو في سفك دماء المسلمين   أوقع بعضَ الجاهلين الظالمين
أحرى إن كان من يُفتَى بقتلهم من الركع السجود المسالمين .
وهؤلاء المفتون الوالغون في دماء بني دينهم وجلدتهم سكتوا عن نصرة المظلومين في غزة وعن حصارهم الآثم من بعض الحكام بل إنهم لا يتورعون أحيانا عن الإيماء إلى انشراح صدورهم بما يتعرض له الغزيون!!
فعسى أن تزدهي الأمة بتوحد طوائفها ومدارسها الفكرية على المبادئ العامة المشتركة بينها في جو من الحرية والتعالي على الأغراض الذاتية ، مع قادة يحترمون لشعوبهم حقها في الحرية والنماء ، ويفرضون تطلعاتها ويدافعون عنها ، فبذلك تكون الأمة حامية لظهر كل مقاومة، مهيبة الحريم وشوكة في خاصرة العدو الذي يعد أكبر الفرحين بحالة الاقتتال والتشظي الحالي في أكثر من بلد عربي ، وبحالة العمل الجاد في بعض البلدان لاجتثاث بعض القوى السياسية بوسائل بعيدة عن أفق التنافس الإيجابي وقيمه .
إن جميع موجهي الرأي العام في عالمنا الإسلامي من قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين وغيرهم ، بحاجة إلى إعلاء قيم الوحدة والاعتراف بالآخر والبعد عن شيطنة أي شريك سياسي .... بحاجة إلى التلاقي بدل التلاغي ، فأي محاولة للإلغاء هي إمعان في زيادة مرض جسم الأمة العليل أصلا ، وإمعان في شماتة العدو وراحة باله ، وإن أيام الأمة المنبلجة مع عدوها لا تحتمل من الصادقين احتمال الضغائن كما عبر عن ذلك شاعر الحماسة حين قال :
وإني لأنسى عند كل حفيظة        ـــ  إذا قيل مولاك ـــ احتمالَ الضغائن
وإن كان مولى ليس فيما ينوبني    من الأمر بالكافي ولا بالمعاون
إن بعض بلداننا التي كان يعوَّل على قوتها المعطلة ، في صد العدو وامتلاك أفق من التحدي له بلغت درجة من الاقتتال الداخلي لا يمكن أن يبرز فيها غالب أو مغلوب، بل إن الكل أصبح في قاع الخسارة ، مما يحتم على حكماء الأمة وعقلائها هزَّ الساحة بمبادرات صلح ذات مصداقية يسندها إخلاص كامل وصدور واسعة تسعى للملمة الشتات وكفكفة الدمع وبناء الخراب وإشاعة الصفح بعيدا عن نزعات الظلم والحسد والتشفي ، والعملُ على ذلك مفخرة قديمة سجلها المفتخرون وتمَدَّح بها المتمدحون أمثال مضرس بن ربعي الأسدي حين قال :
إنا لنصفح عن مجاهل قومنا    ونقيم سالفة العدو الأصيد
ومتى نخفْ يوما فساد عشيرة   نُصلحْ، وإن نر صالحا لم نفسد
وإذا نموا صعدا فليس عليهمُ     منا الخبالُ، ولا نفوس الحُسَّد
ونعين فاعلنا على ما نابه    حتى نيسره لفعل السيد .
فبذلك يمكن إطفاء الحريق وإعادة صلابة جسم الأمة وهيبتها المفتقدة منذ زمن ليس بالقصير ، والتي يعتبر حال فلسطين مظهرا من أكبر مظاهر افتقادها.
ـــ إن شعب فلسطين وشعب غزة بشكل خاص شعب عظيم بشيوخه وشبابه بنسائه وغلمانه ، يتألم كثيرا لكنه يئن قليلا ، وقوفه عند آلام المرحلة ، لا يبلغ شِسْع النعل من تصميمه على نيل الخلاص المنتظر ، وإن أي رصاصة في رأس فلسطيني هناك هي إعلان عن ميلاد خيط من خيوط فجر الخلاص قبل أن تكون إعلان وفاة لصاحبها فصرخة الطفل الذي يلامس الرصاصُ رأسه هي صرخة ميلاد قبل أن تكون صرخة وفاة .
أنا عند ما ذقت الرصاصة صرختي    إذ ذاك كانت صرخة الميلاد
إن المواقف المضيئة لسكان غزة ومقاومتها تجعل كل زهور غزة أقل من أن تشكل إكليلا على رأس ممرض بسيط في مستشفى الشفاء ناهيك عن قادة الكتائب في خطوط النار ، ولا خير فينا إن تأخرنا عن دعم الذين ينوبون عنا في الدفاع عن بيت المقدس وأكناف بيت المقدس أمام قوى الإرهاب العالمي
ولا تخذل المولى إذا ما ملمة    ألمت، ونازل في الوغى من ينازله
ولا تحرم المولى الكريم فإنه    أخوك، ولا تدري لعلك سائله
فالله يحفظهم ويكلؤهم بعنايته
وإذا العناية لاحظتك عيونها    نَمْ، فالحوادث كلهن أمان

4. أغسطس 2014 - 12:19

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا