هناك أمور فرغ منـها منذ زمن، كفساد النظام العسكري بمختلف عهوده، وبطلان وعوده، وفداحة الكوارث التي يجلبـها على العباد والبلاد. فالنظام العسكري الفاسد - والفساد صفة ملازمة للأنظمة العسكرية إلا من رحم ربك - هو البلاء بعينـه،
وهو الطاعون. وقد أدرك قادة الانقلاب على حكم 12/ 12 ذلك جيدا. وهو ما دعاهم للتحرك قبل فوات الأوان. وليس من بيننا - وقد اكتوينا بجحيم النظام العسكري الرجعي ثلاثين سنة - عقلاء يثنون عليه بكلمة خير، أو مجانين يسعون إلى إعادتـه في طبعة أخرى ظاهرها فيه الرحمة وباطنـها من قبله العذاب! هذا إذا كان النظام العسكري قد رحل أصلا، وحل محله "نظام آخر".. "ديمقراطي" حسب ما يرد باطراد هذه الأيام في أدبيات واجتـهادات بعض الأدباء والمجتـهدين السياسيين.
ولكن، هل ينبغي أن يصدنا ذلك - تحت أي ذريعة كانت - عن رصد أخطاء القطب "الديمقراطي" الموازي للعسكر في هذه المعادلة؟ تلك الأخطاء التي كانت سببا فيما حل بالوطن من فشل وخيبة أمل، بعد أن لاحت بشائر النصر، وما يتخبط فيه اليوم من أزمات لا ندري متى وكيف تنفرج! ومن أبرز تلك الأخطاء ما يلي:
1.التآمر على مبادئ وأهداف حركة الثالث من أغسطس
ليس التآمر من شيم الفروسية. ومع ذلك، فقد يجوز أن لا يفي بعض العسكريين بعهودهم، وأن يبحثوا عن سبب ما يمنحهم البقاء في رغد السلطة مدة أطول. ولكن ما ليس طبيعيا أو منطقيا أو جائزا على الإطلاق هو أن يتآمر سياسي مدني مخضرم ذو ضمير ورصيد مع العسكر ضد إرادة الشعب، ويرضى لنفسه أن يكون بَوًّا يُمرى بـه الشعب كما تُمرى أم الفصيل! ويكون سببا في إضاعة فرصة نادرة قلما سنحت في العمر! لقد تنبأ السيد عبد الله ولد ابنو في ملهاة شفهية، انتشرت في بداية السبعينيات، بأن السلطة السياسية في موريتانيا نـهبت من طرف القبائل وصيح في حجراتـها، فتداولتـها أملاكها الواحدة تلو الأخرى! ولما لم يستتب الأمر لأي منـها، واحتضر الوطن، أجمعت - كما أجمع قادة الجيش في 3 أغسطس- على إعادة ما بقي من المتاع إلى المدنيين! ثم يختتم قائلا ما معناه: "ولكن العقلاء من المدنيين رفضوا استلام الغنيمة من يد الناهبين، وقالوا: لقد أخذناها أصلا من أيدي النصارى على رؤوس الأشهاد! ونريد أن يكون استرجاعها اليوم كذلك"! أي أنـهم أرادوا أن يكون تسلمهم للسلطة مشروعا، ومشهودا، ومهيبا.. وكريما أيضا! ترى لِمَ لا تكون لنا أسوة حسنة في أولئك المدنيين العقلاء؟ إن أكبر خطأ تم ارتكابـه من طرف بعض الساسة كان تواطؤهم مع غرماء اليوم ضد الإرادة الوطنية، واشتراكهم معهم في حبك وتسويغ مؤامرة الانقلاب على التزامات ووعود الـ 3 أغسطس، وتفويت فرصة التخلص النـهائي الحاسم من حكم الجيش. وذلك بواسطة انتصار شعبي ديمقراطي يحمل إلى المؤسستين - التشريعية والتنفيذية - وطنيين أكفاء يعبرون تعبيرا صادقا عن إرادة الشعب، ويديرون شؤون الدولة بنزاهة وحكمة، ويُلزمون الجيش، الذي يرعونـه حق رعايتـه، بحدوده الجمهورية!
وذلك هو التغيير المنشود!
2. الفساد، وحماية الفساد، وإسقاط مبدأ الحكم الرشيد من جدول العمل
لم يجمع الموريتانيون على شيء كإجماعهم على ضرورة محاربة الفساد واستئصاله من البلاد. وقد تعهد بذلك جميع المترشحين لمختلف المناصب. ولهم في الجمهورية الأولى تقاليد مجيدة في ذلك المجال، قال عنـها الرئيس المختار ولد داداه - رحمه الله - في مذكراتـه ما يلي: "لقد حاولت على الدوام، مدة وجودي في السلطة، أن يتطابق تصرفي فيها مع تصوري الأخلاقي للمسؤولية. وهكذا فإن المسؤول - في نظري، وخاصة المسؤول السامي - مطالب ببذل قصارى جهده في الابتعاد عن مواطن الشُّبـه في جميع المجالات الأخلاقية والمادية. ومن الضروري أن يتحلى بالصرامة اتجاه نفسه ليكون قدوة حسنة للآخرين، وأن يفرض وجوده بالفضيلة لا بالاستبداد، وأن لا تكون رغبتـه احتكار السلطة والمال. وعليه - في الوقت نفسه - أن لا يكتفي بتحاشي الرشوة؛ بل تلزمه محاربتـها بكل عزم وفي أي شكل مادي أو أخلاقي كانت. ولا فرق – في نظري - بين المحاباة والمحسوبية وبين الرشوة الصارخة والمكشوفة؛ فالكل مذموم ويستحق الإدانة.
إن لين جانب المسؤول حيال الإخلال بالواجب ذنب لا يغفر. ولهذا السبب كنت دائما أعاقب بقسوة كلما أبلغت عن حالة من هذا النوع؛ نظرا لأن إهمال العقاب يجعلني متمالئا مع المتـهم بالجريمة"1.
ومن أغرب ما أدهش الموريتانيين، وخيب جميع آمالهم، مدى استشراء الفساد في عهد "التغيير" وتحَكّمه في جميع مفاصل الدولة بشكل لم يسبق له مثيل! لحد أنـه تسلل في أبشع مظاهره وأقبح صوره، دون وازع أو رقيب، إلى قمة القمة! والرعية على قلب الأمير!
وعلى خطى الفساد والإهمال ينتشر الغلاء والبطالة، وتتعطل مرافق ومصالح الدولة.. فيصبح المواطن عاريا من كل حماية أو حق، ينوء تحت كلكل عولمة وحشية لا ترحم؛ وكأن الديمقراطية والتغيير صنوان للجوع والمرض والفقر والضياع!
3. إهمال المؤسسة العسكرية
الجيش هو حامي الوطن، ودرعه الحصينة، إن حصّن. ومن صفوفه المنيعة، خرج قادة المجلس العسكري الذي أنقذ البلاد من التردي في الهاوية، وسعى إلى إصلاح وتقويم الأوضاع حسب منظوره. والآن، وقد جرى ما جرى.. ورغم جميع ما جرى، فإن الجيش كان يستحق العناية والرعاية من القابضين على السلطة بـه. كان ضباطه الذين قادوا حركة الإصلاح يستحقون منا أكثر من مجرد حافز مادي: دراهم معدودة! أين العقيد اعلي ولد محمد فال رئيس الدولة السابق؟ لا ترقية، ولا اعتبار، ولا تشاور في الهم العام، ولم يحرر - كما طلب - من قيود وانضباط الجيش، فبقي كالمعلقة! كم كان حريا بنا أن نتعلم من الرئيس كوناري كيف كان يعامل توماني توري خلال سني حكمه الثماني! والعقيد الشريف عبد الرحمن ولد بوبكر؟ من قائد أركان إلى متسكع، ثم إلى خازن حبوب!وغيرهما كثر! والجنرالان الخصمان؟ من عينـهما ورقاهما دون غيرهما؟ وعلى أي أساس؟ أولم تكن ترقيتـهما دون غيرهما - رغم جدارتـهما - "هدية" مسمومة هدفها إثارة الفتنة في الجيش؟ ولماذا نستلذ الخضوع لسلطانـهما مليا، ثم ننقلب عليهما فجأة؟ أسئلة كثيرة يصعب حصرها. ولكن الإجابة عليها أصعب!
4. الردة والنكوص!
مما يكثر زعمه أن الشعب الموريتاني شعب ذليل، ودنيء، وخانع، وجاهل، ولا ذاكرة له؛ الشيء الذي يغري بعض حكامه بالإمعان في استفزازه وإذلاله. ولكن التجربة علمتنا أن الشعب الموريتاني - خلافا لما يقال عنـه - يتمتع بوعي حسي قلّ أن يوجد له نظير. فعندما تمالأأحد حكامهمعدولة مجاورة ضد مصالحه العليا، حكم على ذلك الحاكم بالخيانة ولفظه. وعندما انتـهج آخر نـهج الفساد وطغى وتحالف مع عدوه الأبدي، وضعه في نفس الخانة، وقاومه، ونبذه بالعراء. ومن منظور الوعي الحسي الحاد، كان الشعب الموريتاني مستعدا - رغم ما يعانيه - لغفران جميع زلات العهد الجديد - رغم كثرتـها - لولا تعيين حكومة تغلب فيها الردة والنكوص.
لقد كانت تلك الحكومة برموزها استفزازا لمشاعر الشعب، ورعونة منقطعة النظير شكلت نقطة اللاعودة بين الحاكم والمحكوم!
لكن هل يقبل المنطق السليم والعقل الراجح أن نصوم ثلاث سنوات ونفطر على الرموز؟
مهما كانت طبيعة ودوافع بعض دعاة حجب الثقة عن تلك الحكومة، فإن دعوتـهم الديمقراطية تعبر عن رغبة وطموح ومصلحة الشعب، ويؤيدها الشعب. وهذا مصدر قوة ذلك التيار، وسبب رئيسي من أسباب ضعف وانـهيار تلك الحكومة. لقد انتـهكت شرعية الديمقراطية والتغيير بتعيين رموز ماض بغيض أطاح بـه الجيش والشعب. وقد أصبح الشعب في حِلّ من كل التزام أخلاقي اتجاه من تحللوا من التزاماتـهم اتجاهه.
هل هي دعوة للثورة؟ كلا! إنـها دعوة إلى مراجعة الذات أولا، ورصد الأخطاء الفادحة ثانيا، والعمل بجد ونزاهة على إصلاحها ثالثا، حتى:
- نجعل من مبادئ الثالث من أغسطس خطا أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أي اعتبار أو ظرف.
- تكون محاربة الفساد، وإرساء الحكم الرشيد محور عملنا الوطني.
- نضمن ونوفر العناية والحماية لمؤسسة الجيش، ونلتزم بالوفاء الدائم لها.
- نسقط حكومة الرموز، ونؤلف حكومة وحدة وطنية حقيقية تحمي البلاد، وتصون المكاسب، وتبني الاقتصاد، وترعى الإنسان!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. موريتانيا على درب التحديات، ص: 403.
نشر في يومية "السفير" العدد 742 الأربعاء 02 /7/ 2008
(من كتاب "أزمة الحكم في موريتانيا)