غزة ليست رقما أو خبرا عاديا! / الراجل ولد عمر

ربما كان تحديا أن تحكي عن فظاعة المجاز الوحشية على قطاع غرة وسط  حشد من الفلسطينيين؛ حيث يخيم طقس حزين تفوح منه رائحة الدم والموت.
لكن بالنسبة لي كقادم من أرض قلوب أهلها عامرة بحب الفلسطينيين ومؤمنة بقضيتهم العادلة

 أكثر من إيمان شعبها بالاشتراكية أو غيرها من المعتقدات التحررية؛ إلا أن قيمة وجود صديقنا الغزاوي مرعي بشير بيننا بعد أن استطاع بمعجزة مغادرة قطاع غزة قبل العدوان الأخير كانت هبة من السماء؛ بل إن ثوريته هي ما قاده للمخاطرة بنفسه لينضم إلى معسكرنا الصيفي على قمة تلال مدينة جرش الجبلية.
لقد كان وجوده بيننا العزاء الوحيد عن الأصدقاء الذين غيبتهم آلة الحرب الصهيونية بعد أن تشبثوا بلقائنا لآخر رمق.
كثير من أصدقائنا الذين أصروا على حضور معسكرنا بأكاديمية دراما التعليم كانوا يؤكدون لنا فعلا لا قولا أن غزة هي مشروع حياة أكثر منها مشروع موت وأنها ليست أرقاما أو أخبار عادية توردها وسائل إعلام على طرائقها المختلفة.
وسط هذا الجو المشحون بالمشاعر لا يسعك أن تفرط بحساسيتك حيال جمال المدينة الأثرية الواقعة شمال العاصمة الأردنية عمان وما تعنيه دلالة احتوائها على الـ 1000 عمود التي خلفها الغزاة اليونان.
لقد شكلت جرش بمبانيها الصخرية المتسلقة على قمم الجبال متنفسا لفلسطيني الضفة الغربية والقدس وشمال فلسطين (فلسطيني 48 ) للتعبير عن تضامنهم مع صديقي مرعي وليستفسروا عن ظروف خروجه من غزة التي تتعرض للدمار.
شعر في زحمة ذلك الطقس بالحاجة إلى أن أقول لصديقي مرعي أن القضية الفلسطينية تثير من الجدل في موريتانيا أكثر مما تثيره قضية الخبز والماء والظروف الاقتصادية الصعبة لعشوائيات العاصمة نواكشوط.
ولأن مرعي يقاسمني مناهضة النظرة الإعلامية الميكانيكية للأوضاع بغزة فقد كنت أدرك أهمية المعركة التي يخوضها لحث ملاك المؤسسات التجارية هاتفيا لتقديم مواد غذائية للنازحين على أمل سداد قيمتها بعد رفع الحصار؛ خاصة بعد أن تراخت جهود الانروا بسبب استهداف أطقمها وعدد من مراكز الإيواء التابعة لها وكذا بفعل الأزمة المالية التي تمر بها مع إدراكي الشديد لرمزية حركة السيولة المالية التي كان قد جمعها ناشطون موريتانيون بالعاصمة نواكشوط.
صحيح أن قطاع غزة أصغر بكثير من ولاية كيديماغا جنوب شرقي موريتانيا؛ إلا أنها المنطقة الأكثر زحمة سكانية في العالم حيث يتجاوز سكانها أكثر من 1.800.000 ساكن؛ وقد تحولت مع الوقت إلى أكبر سجن بشري في العالم عقب حصار إسرائيل عام 2007.
من جهتها لعبت الحكومة المصرية دورا حاسما في مساعدة الإسرائيليين في عملية التضييق الممنهجة على الشعب الفلسطيني المرابط بقطاع غزة؛ عبر تعمدها غلق معبر رفح أحد المنافذ الأكثر حيوية بالقطاع؛ ولا تسمح السلطات المصرية بفتحه إلا 3 أيام من كل شهرين للحالات المرضية الحرجة؛ عقب الانقلاب العسكري على نظام الرئيس المنتخب محمد مرسي.
النظام المصري الحالي يجد أكثر من مبرر للتمادي في موقفه السلبي حيال دمار غزة حيث تسنده آلة إعلامية تعتبر حماس الذراع العسكرية للإخوان المسلمين، كما تتهمها بتنفيذ عملية قتل الجنود المصريين؛ ما تسبب في عملية عسكرية مصرية واسعة النطاق لتدمير الأنفاق السرية كنوع من العقاب المباشر لحركة حماس وقطع دابر الإخوان في الداخل.
هذه التدابير العسكرية للجيش المصري كانت تمهيدا لتدمير أكثر من 5500 وحدة سكنية بالحرب الأخيرة واستهداف أكثر من 180 مدرسة وجامعة بالقطاع وأكثر 160 مسجد تمت تسويتها بالأرض، بالإضافة إلى حوالي 1900 شهيد فلسطيني أغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ وأكثر من 480.000 نازح يعيشون بدون مأوى.
شخصيا أتعاطف مع النظرية التي ترجح تنامي الرأي الشعبي المؤيد لحماس داخل الأوساط الفلسطينية وحتى الشعوب العربية المتعاطفة مع القضية، كما أنني مع التخمين القائل بفشل  محاولات تصفية حماس من طرف بعض الأنظمة العربية والإسلامية، والأهم من ذلك كله أن التجربة الأخيرة علمتنا أن حماس هذه المرة أوجعت الصهاينة أكثر من أي وقت مضى.
كثير من سكان الضفة الغربية والخليل التي خطف فيها الجنود الثلاثة يتعاطفون اليوم مع حماس رغم معارضتهم لسياستها في القطاع؛ بل وحتى لخطابها السياسي منذ الانتفاضة.
كما أنه من جهتي حاولت على الدوام تجنب النقاشات الحادة التي تنشب بين النخب الفلسطينية الشابة بفعل مشاربهم ونزعاتهم المختلفة؛ إلا أنني لم أتحمل حقيقة سقوط حوالي 1900 شهيد وتشرد أكثر من 480.000 شخصا آخر؛ فبادرت صديقي مرعي بالقول : أنا أعلم أن حماس إثر الانتفاضة الثانية عكفت على بناء ترسانة عسكرية مكونة من عشرات آلاف المقاتلين عوضا عن حفر سلسلة أنفاق ظلت توفر لها الغطاء ضد القصف الجوي والمعاقل الآمنة؛ فلماذا لم تفكروا في بناء ملاجئ لإيواء الأطفال والنساء والشيوخ الأكثر تضررا عبر مسار الثورة؟.
كانت الظروف التي خرج تحت وطأتها صديقي مرعي قبل القصف بأيام قليلة مرافقا لوالدته لإجراء عملية جراحية بالقاهرة؛ تلخص سجلا حافلا بالمعانات أشبه بعملية لف الحبل حول عنق أهل القطاع.
لقد شدد صديقي على القول إن إسرائيل لم تكن لتسمح لهم بإدخال مواد بناء لمساكنهم الخاصة، فكيف بمواد يمكن استخدامها في تشييد مخابئ أو ملاجئ يمكن الاحتماء بها كما هو ترف المستوطنين.
وللأمانة فقد شهد القطاع قبل الحرب الأخيرة أنشطة تهريب طالت مواد خام وأنواع مختلفة من السلع الأساسية وغيرها عبر الأنفاق السرية ما حولها إلى سبب مباشر في ثراء نخبة من رجال الأعمال الفلسطينيين؛ حيث هربت البضائع من مصر وإيران والأردن الدولة الأطول حدودا مع فلسطين.
إن العدوان الأخير على غزة ليس نهاية صراع بقدر ما هو بداية آخر؛ إلا أن ظاهرة الصمت العربي حيال قتل الأبرياء بل والمساهمة في تقليم ما تبقى من أظافرهم المقلمة أصلا عبر تدمير شوكة حماس يظل مؤشر خطر على مستقبل القضية بالنسبة للأمة العربية والإسلامية؛ كما يعيد طرح سؤال الوجدان العربي؛ إلى متى سيدفع الفلسطينيون ثمن عدم مقدرة الدول العظمى بما فيها أجهزة الأمم المتحدة على إيجاد حل عادل لتقرير مصير الشعب الفلسطيني ووقف شلال الدم وعمليات تهويد القدس والاعتداءات المستمرة للمستوطنين الصهاينة المدججين بالسلاح الحي؟.

6. أغسطس 2014 - 11:40

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا