ينتظر من وقت لآخر إعلان حكومة جديدة (أو قد يكون بعضها جديدا على الأقل) وهي فرصة للتنافس المحموم على تهنئة الوزراء الجدد وأولئك الذين سَلِموا من خطر الإقالة، وعادة ما يجري هذا التنافس وفق طقوس تختلف باختلاف فاعليها ودوافعهم،
ولكنها تتفق في الجوهر والهدف.
لا مكابرة في أن هؤلاء الوزراء قوم من صميم هذا المجتمع – وبعضهم من أفاضله- ويصعب الحكم عليهم بجملة واحدة؛ فمنهم المقسطون ومنهم آخرون، وحسب ما رأيت من تاريخهم (والتاريخ علم يعرف به المستقبل) فمنهم من يذوق طعم المنصب مرة يتيمة، ومنهم من يتكرر له ذلك، ومنهم من يعين حتى يقال: لا يقال، ويقال حتى يقال: لا يعين.. على نحو يذكرني بعجلات سيارات "تودروا" في عهد نشاطها، فقد كنت أرى السائق تزعجه العجلة فيرميها غير نادم على التخلص منها وبعد أيام يحن إليها فيبحث عنها ويعيد ترقيعها واستعمالها، ثم تزعجه فيتخلص منها قبل أن يعيد ترقيعها واستعمالها.. وهكذا.
وأعترف بأن تجربتي في التعامل مع كبار المسؤولين لا تصلح أنموذجا، حيث لم أصافح رئيسا في فترة حكمه منذ 03 /3/ 1983 (ولاحظوا كم تكرر الرقم 3 ثم تذكروا دلالته) ولم أقابل وزيرا في منصبه إلا في حالات نادرة جدا، ويصعب نفي كل ذلك. وقد يصدق علي في هذا أحد – أو كلا- المثلين: "طير التيدومه" أو "غزلان يهديها" (الغزلان هاربة من يهديها وهي هاربة من الغزلان!).
رغم كل ذلك فإني أرى أن تهنئة المسؤول المعين أمر غير مناسب من وجوه أذكر منها:
1. تعريض المهنئ نفسه للإهانة والاستخفاف حين يسعى إلى من لا يأبه به، ويتحدث إلى من لا يسمع منه، ويقبل على من يعرض عنه، ويطمئن إلى من يستعجل انصرافه. وكل ذلك ينافي عزة المؤمن؛ فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يذل نفسه.
2. أنه إزعاج للمهنأ الذي يحسب كل من صافحه يحمل إليه مطلبا أو أكثر عاجلا أو آجلا، فيضطر إلى الاختصار والتحفظ صيانة للشيء العام لنفسه أو لمستحقيه. وفي تكدير الخاطر وإزعاج المسلم وإقلاقه ما لا يرضاه الشرع ولا الطبع السليم.
3. أنه غالبا ما يعطي صورة مبالغا فيها عن المسؤول الجديد حين يرى المخبرون المنبثون حوله أفواج المهنئين، وحجم الأوجه النوعية من بينهم، والسيارات الفارهة؛ بل والبُدْنَ المُعَقَّلة أحيانا! فينقلون ما رأوا - دون تمحيص ولا تعقل- إلى من يهمه الأمر.
4. الإسهام في زيادة عقدة الكبر والغرور التي يصاب بها أغلب من "لا يقود ولا يسوق" فما الظن بمسؤول كبير ما لم يعصمه الله!
5. رسم منهج خاطئ من اللحظات الأولى قد يقود إلى ما لا تحمد عواقبه على الفرد والمجتمع.
عوضا عن ذلك رأيت الصواب أن أتجه بالزيارة إلى أصدقائي من المسؤولين (وهم قلة على كل حال) عند ما يقالون، ورأيت لذلك فوائد جمة أذكر منها:
1. إحياء ما أماته المنصب أو أوهنه من علاقاتنا الأخوية.
2. يكون المسؤول المقال مطمئنا إلى أني لا أطلب مالا ولا جاها ولا منصبا ولا وظيفة ولا أي شيء آخر فيقبل علي ويطمئن إلي.
3. لن يقع في ذهن من رآني أزوره أنني جئت خائفا أو طامعا، وبذلك أصون عرضي من الدهماء.
4. أجده بمفرده في الغالب فينتبه إلي ولا ينساني، عكس من يتدافع مع المهنئين عند التعيين.
5. أجبر خاطر مسلم لا يدري كيف يراه الناس بعد "ما حدث" له، وفي ذلك ما فيه من الخير (إذا كانت الإقالة لغير سوء) وفيه إحياء لبعض عادات المجتمع؛ ألا يحتفي بالمطلقة!