ليلة السقوط من على الشجرة / سيد محمد ولد أحمد

انهمر مطر غزير صبيحة يوم السبت الموافق 24 أغسطس 2014 مدينة نواكشوط، واستمر طويلا أكثر من المعهود مما بشر بعودة المستنقعات المملة التي تغض مضاجع ساكنتها الحبيبة.. وكالعادة فرحت - ككل إنسان طبيعي- بقطرات المطر المصبوبة

 من السماء بقدرة قادر، أنعشني ذلك الجمال الخلاب الذي تداعبه برودة الرذاذ والصباح، تذكرت أيام الطفولة المولية التي كنا ندور فيها حول أنفسنا تحت المياه الدافئة المريحة، ترى كم من مطر مر علينا، وكم من مطر سيمر بنا في هذه الدنيا؟.. أكثر من ساعة والرياح تعصف، والسماء ترعد وتبرق مذكرة الجبارة الذين تحصنوا بالقصور والبيوت بجبروت الخالق الجبار..
مررت في اليوم الموالي من خلفية المنزل الشبه مهجورة فعثرت على فرخ حمام بري انكسر الغصن الذي يحمله فسقط من على الشجرة التي تقبع في الخلف.. ربما يكون المسكين الضعيف قد قضى يوما كاملا في ذلك المكان الذي يحجبه عن رعاية أمه (أقرب المخلوقات إليه، وأشفقهم عليه)، بل عجبت من نجاته من قط المنزل المتوحش الذي يستمتع بملاعبة فرائسه دون أكلها!
أهويت يدي نحو الفرخ المسكين والتقطته في كفي، ففتح فمه، بدا كأنه يستجدي طعاما أو ماء، لم أفكر في غير الطعام حينها.. كنت كلما لمست رأسه الصغيرة بأصابعي فتح فمه طالبا للغذاء، ثم أغمض عينيه ونام بوداعة واستسلام في كفي، حملته مع بعض أوراق الشجرة ووضعته داخل كيس عليها، كيس صممته بحيث يحميه من القط..
فكرت في ما أطعمه فهداني التفكير إلى طرح السؤال في الإنترنت، وطبعا هذه إحدى فوائد خزان المعلومات والمصيبات هذا، وجدت في غوغل من يعرض وصفة من عدة عناصر بعضها متوفر في المنزل وبعضها لا، اكتشفت نوعا من أغذية الفراخ المعلبة تباع في الصيدليات، فسألت نفسي ترى ما الذي سيكون رد فعل الصيدلاني البدوي الجلف إذا سألته هل أجد عنده طعام فراخ الطيور؟! فانتقلت إلى خطة الطبخ، فقمت بخلط حبيبات من العدس واللوبيا لأطحنها ثم أضعها في إبرة حقن – كما شاهدت في الفيديو-، لأحقنها في فمه المفتوح.. قلت لنفسي وأنا أحمله وقد بدا أنه مصاب وضعيف وجائع، ربما يرحمني ربي وييسر لي من يعينني على مشاكل هذه الحياة فقد دخلت بغي الجنة في قطة رحمتها..
وضعت الوصفة على النار، فرن الهاتف، فإذا بصديق عزيز يدعوني إلى المكان المفترض أنني أعمل فيه، طالبا مني بعض المعلومات.. أوصيت الخادمة بأن تراقب الوجبة التي على النار، وهرعت إلى خارج المنزل وأنا أهتف في أعماقي "لن ترى إلا الخير من وراء هذا الفرخ المسكين"..
أتعرف.. ذلك الإحساس الذي يراودك - كل عشر سنين، أمزح - إذا فعلت خيرا لا تبتغي من ورائه غير مرضاة الله، خصوصا إذا كان تجاه من هو أضعف منك، من بلا حول ولا قوة، وكلنا ذلك الضعيف..
ألقيت نظرة على المسكين الذي وضعته فوق التلفزيون داخل غرفتي خوفا عليه من القط اللئيم.. كان منهكا مستسلما لنوم عميق، قلت في نفسي لن يضرك أن تذهب ثم تعود بعد ساعة أو اثنتين وتطعمه، فقد احتمل وبإمكانه الإحتمال ساعة أو اثنتين..
ما أقسى الحياة، هل يمكننا أن نشك في أن الله تبارك وتعالى هو أرحم الرحماء؟ لا أبدا، فهو الرحيم الحكيم العليم، لكنها سنة الحياة، أن يسقط هذا المخلوق الضعيف من علو 15 مترا بعيدا عن رعاية أمه الميسرة له بقدرة الله تعالى، وأن يفترس الأسد والذئب الحمل والغزال، وأن يتلقف الموت من حان أجله سواء كان قويا أم ضعيفا صغيرا أم كبيرا..
إنها سنة الحياة أن نحيا ثم نموت ثم نحيا، وتتنوع النهايات والموعد واحد "يوم يقوم الناس للحساب"، فماذا أعددنا لذلك اليوم الذي تتغير فيه موازين الحياة التي غرتنا..
وأضع بين يديك خاطرة جالت بذهني وأنا أقرأ تفسير الآيات الأولى من سورة التكوير (إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت) إلى قوله (وإذا البحار سجرت)، فقد جاء في تفسير الآيات: أن الشمس التي نرى عظمتها اليوم تلف ويذهب ضياؤها وتلقى في النار، هذه هي المعاني الثلاثة التي جاءت في لفظ التكوير، والجمع بينها ممكن بأدلة من الكتاب والسنة، فالعالم الذي نحن مقبلون عليه لن تكون فيه شمس! ولا نجوم، فالنجوم التي نرى في السماء أيضا سيذهب ضوئها وتسقط..
أما على الأرض فإن الجبال ستختفي، ستدك وتصبح كثيبا مهيلا ثم تكون بعد ذلك كالعهن المنفوش ثم تُسيّر! وهذه المراحل ستحدث للجبال يوم القيامة كما ورد في القرآن، فلن يكون هناك جبال ولا بحار! هذه البحار التي تغطي أكثر من 70 في المائة من مساحة الأرض سوف تختفي! سوف تمتلئ وتفيض وتلتهب وتحترق وتيبس، ولا مانع من اجتماع كل هذه المعاني في معنى واحد هو الإختفاء!
والخاطرة التي أود قولها هنا هي: أنه تعالى تحدث عن اختفاء أبرز ما في السماء (أو عليها) وهو الشمس والنجوم، ثم عن أبرز ما على الأرض وهو الجبال والبحار، فهذه الآيات الأربع العظيمة ستختفي مما يدلك على أننا مقبلون على عالم آخر لا حاجة لنا فيه إلى مقومات هذه الحياة، أرجو من الله العلي العظيم أن يجعلني وإياك من أهل الغنى في الجنة..
فماذا أعددنا لدخولها، ماذا اعددنا لنحيا بلا آلام ولا أحزان ولا موت، ماذا أعددنا من الرحمة للمخلوقات وأولهم الإنسان؟ ماذا أعددنا من الوقت لفعل ذلك، وللعبادات الخالصة لوجه الله تبارك وتعالى، السالمة من مشوهات البدع والشبهات التي تحبط العمل وتجعله كالسراب؟
ماذا أعددنا لليلة السقوط من على شجرة "الدنيا"، كيف ينسينا غصن من أغصان هذه الدنيا الكثيرة خطر السقوط، وأتحدث هنا عن غصن كغصن الرئاسة الذي يقف عليه رئيس الجمهورية بجلالة قدره، وغصن الوزارة الذي يقف عليه الوزير الأول والأخير، والأمين العام، وغصن الإدارة الذي يقف عليه المدير والموظف وصانع الشاي، وغصن الحانوت أو الفصل الذي يقف عليه التاجر والأستاذ؟
ما أضعفنا وأحوجنا إلى خالقنا، نحن أضعف من هذا الفرخ المسكين، لكن المشكل في حيل إبليس التي تغرنا، وفي عقولنا وقلوبنا التي تنساق ورائها!..
عدت إلى المنزل بعد ساعة أو أكثر من الغياب، هرعت إلى الفرخ لأطعمه بالإبرة التي وضعت فيها بعض الطعام، ولكني وجدته يحتضر! لم يستطع المسكين احتمال ساعة أخرى من الحرمان والعذاب، ويبدو أنني قد أخطأت التقدير مجددا – كالعادة-، فلم أسقه عندما عثرت عليه! شغلني هاجس البحث عن كيفية إطعامه عن سقيه بالماء المتوفر في كل مكان والحمد لله!
مددت الإبرة نحو منقاره المغلق هذه المرة، فتحته بأصابعي وحاولت دس بعض الطعام فيه، لكن المسكين كان غائب الوعي يحتضر! تأملته بألم وإشفاق، ثم تركته يرقد بسلام..
لقد جاء إلى الدنيا بقدر، وخرج منها بقدر، ولست مرغما على البحث عن أسباب وخلفيات رحلته القصيرة، وكلي إيمان بأن في حياته حكمة كما في موته..
شعرت بقلبي ينفطر عليه، هكذا هي سنة الحياة أيضا، تأتي الألفة في دقائق معدودات، ولا نحزن بجد إلا على من هو أمام أعيننا حتى وإن كان أبا أو ولدا أو زوجا، قلت في نفسي "لو أني سقيته، لو أني أطعمته من الأول، لو..".. "لو" التي تفتح باب الشيطان!..
فلنبادر في أمور حياتنا الإيجابية كلما أمكننا ذلك فالفرص لا تتكرر، والحياة لا تمهل دائما، والتسويف هو أحد أبرز المهلكات.. فلنبادر إلى فعل الطاعات، وولوج أبواب الخير المتنوعة، والإبتعاد عن الحرام، والإستغناء بالحلال عنه، لا يعجزنا عنه شيء، فالرازق المعين هو الله عز وجل، فلنتوكل عليه وكفى به وكيلا..
لنتمسك بما ينفعنا في آخرتنا، ولا نغتر بما سواه من زخرف الدنيا، ولنتمسك جيدا بالغصن الذي نقف عليه، دون أن ننسى أننا ساقطون من عليه طال الزمن أم قصر، في روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، والعياذ بالله من النار..

26. أغسطس 2014 - 12:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا