الإمام عبد الله بن بيّه ومهمة الإطفاء / حمزه ولد محفوظ المبارك

في كل عصر من عصور الإنحطاط و في كل حقبة من حقب الظُّلْمَةِ تتساقط الأقنعة المزيفة تباعا و تتهاوى عروش صنعها الهوس النفعي و يتبدل الأمن خوفا و الغنى فقرا و الطهارة رجسا و العافية هما و غما ,

 لكن في المقابل يظل القابضون على الجمر المتسنمون هام الترقي , العارفون بالله ضياء كون مدلهم الخطوب ينيرون الطريق و يرشدون , يصنعون من الحق ثوب ستر للمبتلين , يُعلِّمون الناس البر و صلة الأرحام بعد أن تكالبت عليهم المصائب و قُطِّعت الأرحام .

إن ما يعيشه عالمنا اليوم من إنحطاط شأن الإنسان المسلم و هوَانِ حرمته و دمه و إستباحة ماله و عرضه ليس إلا ترجمة حيّة لما وصل إليه الخطاب الديني من خلط في المفاهيم و تشابك بين العواطف و النصوص و تداخل بين السفلي و العلوي من شؤون الإختصاص ...

دين الله ليس دين تنازع و لا دين تقاتل و لا دين تناحر , دين الله إسلام و تسليم و إنقياد لأوامر الله في السراء و الضرار , لا تبدل ضوابطه أمزجة الخلق التي تهفوا  لمآرب السلطة و الكسب و لا تلوي نصوصه ضواغط الشارع العبثية التي تحتكم للضجيج و الألوان و صناعة الفوضى.

لقد غرق العالم الإسلامي في عصرنا هذا في إشكالات كبرى صنعت فيها الفتوى كما يصنع الموت و دفنت فيها الرحمة كما يدفن الشهيد , فأطلقت النار من بنادق العلماء في المساجد و المنابر و أصدرت شهادات الوفاة من مكاتب الدعوة , فطالت العلماء أيادي السفهاء , هدمت المساجد على رؤوس المصلين , دفنت آثار الحياة تحت أصوات التكبير التي تؤازر السواطير في تقطيع الرؤوس و رُجِمت الأخلاق و جُلدت الكرامة بسياط الجهل في الشوارع و الأزقة في حضرة اليأس من الخلاص ....

و الحالة هذه يظل دين الله هو الملجأ الذي يهرب منه طالبوا السلطة و يتذمر منه فاقدوها ظنا منهم أن تعاليم الدين السمحة تخضع لوسائل التملص و تبيح مفطرات التلصص في حالة من مشادة الدين و مغالبة الأهواء , لكن الله سبحانه و تعالى يأبى ذلك في نصوص وحيه و سنن الحياة التي لا يدرك شؤونها إلا العارفون به سبحانه , ممن جعلهم حماة لهذا الدين يجوبون عوالمه سبرا و تأصيلا و تفصيلا و إنزالا و إستنباطا آخذين بمنهج الإدراك و التحري في سكينة و حرص على هداية الناس و حقن دمائهم و إطفاء حرائقهم و تضميد جراحهم , لينعم الله تعالى على هذه الأمة في هذا الزمان بالإمام الرباني عبد الله بن بيّه , الذي حمل إلى المتنازعين مشروع السلم و الصلح و الهداية فكان معززا بدستور فيه تجديد و ترشيد و خضوع لأوامر الله و إحتكام لشريعته بعيدا عن التعصب و الغلو و التطرف .........

لا يختلف إثنان من العارفين بالدين الإسلامي في عصرنا الحالي على مكانة الإمام عبد الله بن بيه و جهوده العالمية المتبنية نهج الإصلاح و التقارب و التلاحم البشري حول شريعة الإسلام السمحة التي جاءت رحمة للعالمين , و من الواضح أيضا تلك الجهود و المواقف التي ميزت الإمام في تعامله مع الفتن التي حلت بدار الأمة في عصرنا الحالي و ما آلت إليه من هدم و قتل و تشريد و إنتفاءِِ للقيم الإنسانية و إرتكاس للحضارة البشرية , و في هذا السياق يشخص الإمام المشكلة و يضعها في سياقها التاريخي و أبعادها العلمية و الإجتماعية مجيبا على كثير من علامات الإستفهام التي يختلط فيها الفهم حتى على كبار المتحمسين فيقول في كتابه "تنبيه المراجع على فقه المقاصد , (الصفحة 9) :

- ما هي المشكلة ؟
إنها وضع فكري يسيطر على نفوس الأمة و عقولها و يطبع سلوكها , و يعطل مسيرتها , و يكبل خطاها , و يصرف طاقتها في قنوات العدم الذي لا ينتج إلا عدماََ : لقيام التمانع السلبي بين دعوتين أولاهما , حداثية تبحث عن منتج مقلد , و مفهوم هلامي تبريري , تجعل منه مقدمة ضرورية و معبراََ و ممراََ إجباريا لكل عمل نهضوي , فحكمت بالتوقف ما لم يُلبَّ شرطها و يتقدَّم رهطُها .
و دعوى دينية لا تسمح لواقع بالإسهام في مسيرة التطوير و سيرورة التغيير ما لم تنخله بغربالها , و تكسوه بجلبابها , و يستجيب لطلابها , تتجاهل الواقع و تعيش في القواقع , حمل بعض منتجيها فقها و ليسوا بفقهاء فحكموا بالجزئي على الكلي و تعاملوا مع النصوص بلا أصول فأمروا و نهوا و هدموا و بنوا .

تراكم تاريخي عمره قرون أسهم فيه الإستعمار الغربي للبلاد الإسلامية , فاستولى على الزمان و المكان و الإنسان , بمعنى أنه استولى على التاريخ و أصبح غيرهم "الغربيين" خارج الزمن ثقافة و فكرا و إبداعاََ .

ما جعل الشريعة خارج المجال اليومي للحياة , أي خارج الممارسة في الواقع في أغلب الأقطار , الأمر الذي حرم الأمة من أن تقوم بجهد ذاتي بأيدِِ راشدة و عليمة في تطوير موروثها بناء على تجارب الحياة و إكراهاتها فانزوى الفقه عملياّّ إلى مجال الأحوال الشخصية , و انبرى للإجابة في غمرة الأحداث - ربما بحسن نية و سلامة طوية - ثلة تظن أنها بقفزة يمكن أن تغير الإنسان و تعيد عقارب ساعة الزمان .

إلا أن لدى بعض هؤلاء خللا ناشئاََ عن قصور في التأصيل , و ضمور في الفقه , و عدم التزام بالمنهجية و عدم فهم للواقع , ظاهريةٌ في التفسير و جهل بالحكم و التعليل , و تجاهلٌ للواقع عند التنزيل , فقدموا فتاوى تتضمن فروعا بلا قواعد و جزئيات بلا مقاصد , تجانب المصالح و تجلب المفاسد , ما أوجد حالة من الفوضى الفكرية تطورت إلى نزاعات و خصومات كلامية سرعان ما استحالت إلى حروب حقيقية بالذخيرة الحية فسفكت الدماء المعصومة و استبيحت الحرمات المصونة في مشهد غابت فيه الحكمة و انتزعت - من قلوب الأطراف المنخرطة فيه - الرحمة فأردنا أن نهيب بالجميع لتحكيم العقل و الشرع .  ( إنتهى الإستشهاد )

هي إذاََ حالة من عدم الطمأنينة بل من الفوضى يتداخل فيها سياسي لا ديني بديني يفتقر سياسة الدين فكان لزاما على الإمام أن يجد للعامة مثلي مخرجا من حالة التشرذم التي نعيشها في ظل فتاوى المعسكرات , فقدم نموذجه الفارع في دور العلماء حينما قال : "إن مسؤولية المرجعيات الدينية كبيرة في هذه الفترة بالذات - و إن التكلفة البشرية و الإنسانية لا يمكن أن تترك أي شخص متفرجا - بل يجب علينا أن نكون إطفائيين , و الإطفائي لا يسأل عمن بدأ و إنما يحاول أن يطفئ الحريق " .

بالفعل إنه حريق لم يسلم منه أخضر و لا يابس , حريق يلتهم الكرامة الإنسانية و يسري في هشيم الأخلاق , يهدم البنيان و يخطف حياة الجميع و يسرق من الكل شأن نفسه في حالة من الضياع فاقت التصورات , و أربكت المشاعر على جميع المستويات , يستدعي مهمة إطفاء على مستوى الإمام عبد الله بن بيّه .

25. أغسطس 2014 - 13:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا