بعد إنتظار طويل وترقب ماحق لأعصاب الجالسين على الكراسي الوزارية والمتوثبين لها، ظهرت حكومة موريتانيا الجديدة القديمة نسخة طبق الأصل من نفسها، واستمرارا "فتوغرافيا" استخدمت فيه بعض طلاسم "الفوتوشوب" لحكومات
الأنظمة العسكرية المتعاقبة على البلاد منذ سبعينيات القرن الماضي.
منذ ذلك التاريخ ولغاية اليوم اتسمت التشكيلات الحكومية بمنطق المحاصصة القبلية والعشائرية و الجهوية والأثنية ، وقد استفحلت الظاهرة في عهد الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع الذي كان يحرص على التوازنات القبلية والعشائرية وله حنكة خاصة وهواية ممتعة في تفتيت "لقبيلات" وضربها في صميم كبريائها العشائري من خلال سياسته التي ترغم ساسة القبائل والوجهاء على لعق أرجل أسافل العشيرة وفق المنطق الاجتماعي السائد..
كانت ولا تزال سياسة الحكام العسكريين تقضي بحشد ولاء القبائل والعشائر للدولة التي هي شخص الرئيس "الدولة هي أنا" ، ومقابل هذا الولاء تبقى الدولة بقرة حلوبا تتبارى العشائر من خلال أبنائها الممسكين بتلابيب أجهزتها في نهب ثرواتها ، و إستغلال إمتيازاتها ، واستخدام سلطتها للمأرب الشخصية حتى في تصفية الحسابات بين القبائل في وقائع "داحس والغبراء" التي لا تزال بعض القبائل العربية في عدة بلدان عربية منها موريتانيا وفية لذكراها وتحييها من حين لآخر.
لم يكن منطق الكفاءة يوما معيارا لإختيار هذا الوزير أو ذاك أو هذا المدير أو حتى رئيس المصلحة و القسم ، فقط وحده الولاء السياسي و ما يؤكده من براعة في التزلف والتملق وأشياء أخرى... هو المعيار الأساسي في اختيار أغلب من تسند لهم مهام خدمة الوطن و مسؤولياته الجسام.
لا ننكر أن هناك حالات كثيرة خارجة على هذا السياق تمثلت في تكليف كفاءات وطنية مشهود لها بالنزاهة والأمانة ، لكنها تندرج هي الأخرى في سياقات لا تخرجها في نهاية المطاف عن فلك القبيلة والعشيرة والجهة.
وليس خفيا أن تشكيل الحكومات الموريتانية منذ انتهاج "المسلسل "الانتخابي ظل يتأخر في الغالب بسبب إرتفاع أو انخفاض ضغط هذه القبيلة أو تلك وهو ما يتطلب بعض الوقت للتأكد من حالة التوازن لكي لا ينفجر شريان عشائري في جسم الدولة ذات البنية الاجتماعية الهشة ، فلا بد من استخدام "ماكينات" التدقيق القبلي وأجهزة قياسات الضغط العشائري و"ترمومترات" السخونة الاثنية وخرائط البعد الجهوي ، في عملية "انتاج الحكومة" ، ولا يحدث ذلك البتة تحريا لاستكشاف الطاقات الأكثر كفاءة في هذه القبائل و العناصر و الجهات ، بل لاختيار من هم أكثر ولاءا وتزلفا للنظام حتى على حساب العشيرة نفسها ، كما تراعى في هذه التعيينات رسائل الإقصاء والصفعات الصامتة الموجهة لرموز وجهات سياسية داخل نفس العشيرة وربما الأسرة.
ولا اعتقد أن حكومة "ولد حدمين" الجديدة تحمل في وطابها الجديد، لأنها مجرد نسخة مصدقة من حكومات ولد محمد لغظف وولد الواقف وولد زيدان وولد امبارك والشيخ والعافية وولد اكيك وولد ببكر، كلها حكومات بنفس المقاسات التي صممها ولد الطايع مطلع منذ ثامنينيات القرن الماضي ولا تزال تستخدم نفس الاليات لتجديدها مع تشطيبات وتلميعات باهتة للمظهر الخارجي لكن الجوهر هو نفسه حكومات منزوعة "الدسم" منزوعة الإرادة ، بعض أفرادها يكون أكثر ارتباطا وعلاقة برئيس الجمهورية من رئيس الحكومة نفسه ، حكومات تتلقى "الأوامر والتوجيهات النيرة" وتعتز بذلك وتفاخر به ، بدون أن يكون لها أي طموح للمبادرة واستخدام الصلاحيات الوزارية السائدة حتى في الدول الشمولية ، فالمبادرات الوحيدة التي تتجاسر عليها الحكومات الموريتانية هي تلك المتعلقة بالمأرب الذاتية الشخصية ، وحسب مراقبين تفاقمت حالة الشلل و"الرهاب" الحكومي مع نظام الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز الذي تحدثت عدة مصادر إعلامية عن رهبة وزراءه ومعاونيه الشديدة من لسعات لسانه النارية فضلا عن "ردات فعله" غير المحسوبة في حالة وزير ما أو مدير تجاسر أو سوّلت له نفسه اتخاذ أبسط قرار بدون العودة إليه حتى ولو تعلق "بتوقيع إجازة لموظف"
وبالتالي يمكن أن نطلق على هذه الحكومات أنها حكومات مرعوبة مرتعشة لا تعيش حالة هدوء واطمئنان نفسي تسمح لها بالتفكير العميق في الخطط والاستراتيجات التنموية، فضلا عن الاشراف الميداني على تجسيد المشاريع التنموية، ورغم كل ذلك تعتبر حكومات الرئيس ولد عبد العزيز من أكثر الحكومات استقرارا ، فالرجل كاد يحتفظ بنفس بطاقمه الوزاري منذ وصوله للسلطة قبل ست سنوات باستثناء تغييرات بسيطة أملتها ظروف موضوعية ،وان كان البعض يبرر ذلك بكونه هو نفسه الوزير الأول والأخير ، لكنه ابتعد إلى حد ما عن ظاهرة إدمان ولد الطايع للتعديلات الوزارية بحيث لا يكاد يمر شهر بدون وجوه جديدة وأخرى محالة للثلاجة المخزنية.
ووفقا للمنطق الأصولي المعروف "شرط النهايات تصحيح البدايات" لا أعتقد أن هناك مفاجئة كبيرة إن خيبت تلك الحكومات المتعاقبة ظن المواطنين فيها ، وفشلت على مدى العقود الماضية في صناعة نهضة تنموية، كل مواردها المادية والبشرية متوفرة في موريتانيا الحبلى بالخيرات والكفاءات، لكن غياب منطق الرجل المناسب في المكان المناسب ، وسحب وشطب الصلاحيات الوزارية ، و إشعار هؤلاء بأنهم مجرد مأمورين ، يفقدهم الثقة في أنفسهم أولا ، وفاقد الثقة لا ينتج ، كما يقوض مصداقيتهم لدى الرأي العام ، وبالتالي ما دامت آليات انتقاء الطاقم الحكومي غير تنموية لا معنى للحديث عن التنمية ، ولعل واقع العاصمة نواكشوط اليوم "الممنوعة من الصرف" يشي بما فيه الكفاية بالفشل الذريع للحكومات السابقة بما فيها حكومة ولد محمد لغظف التي احتفظ أغلب أعضائها بمناصبه الوزارية ، فيما أخرج هو من النافذة.