لقد عشنا وفي وقت متزامن حدثين مقلقين ومفزعين، ولم يكونا بالحدثين
المعزولين، وإنما جاءا كمحصلة لسلسلة من الأحداث المقلقة والمتصاعدة التي
عرفتها بلادنا في السنوات الأخيرة. فأن تنظم حركة "أفلام" مؤتمرا في قلب
العاصمة تدعو فيه إلى حكم ذاتي لمدن الضفة، فإن ذلك حقا لمن الأمور التي
تثير الفزع والقلق، وأن تقوم جماعة من الموريتانيين بهجوم بالعصي فجرا
على موريتانيين آخرين على شارع "المقاومة" لتغيير المنكر فإن ذلك أيضا
لمن الأمور التي تثير الفزع والقلق.
الحدث الأول جعلني أتذكر بعض الأمور التي تم التمهيد بها لتقسيم السودان،
أما الحدث أو الحادثة الثانية فقد جعلتني أتذكر أمورا أخرى سبقت ظهور
تنظيمات إرهابية تكفيرية كالقاعدة وك"بوكو حرام" وك"داعش" في بعض البلدان
العربية والإفريقية.
كان "عمر البشير" رئيسا يحمل الكثير من الرتب العسكرية، وكان يُظهر قوة
زائفة، وكان السودان يتفكك من تحت أقدام "البشير" ومن فوق رأسه، وذلك في
وقت كان فيه "البشير" يتغنى بانجازات وهمية، ويرفع شعارات جذابة لم تنزل
يوما على أرض السودان. والحقيقة أنه ما كان للسودان إلا أن يتفكك، بعد أن
ابتلي برئيس كالبشير، ظل منشغلا عن مشاكل السودان الحقيقية ببطولاته
وبشعاراته الفارغة، وذلك في وقت كان فيه سفراء الغرب ورجال مخابراته
يصولون ويجولون على أرض السودان الواسعة، ويسارعون إلى فعل كل ما من شأنه
أن يُعَجل بتفكيك السودان.
في موريتانيا انشغل "عزيز" بالتغني بشعارات زائفة، وانشغل سفراء الدول
الغربية في نواكشوط بفتح أبواب سفاراتهم لكل من "يصدع" بخطاب متطرف أو
انفصالي، وإليكم طائفة من الملاحظات المفزعة في هذا المجال، والتي لابد
أنها ستقلقكم على مصير بلدكم كما أقلقتني على مصيره:
1 ـ تعامل سفراء الغرب بجفاء مع المؤتمر الذي نظمه المنتدى الوطني
للديمقراطية والوحدة في قصر المؤتمرات، وظل سفراء تلك الدول يتجاهلون هذا
المنتدى ويتهربون من لقاء قادته، وذلك في وقت كانوا فيه يسارعون إلى لقاء
قادة حركات وأحزاب صغيرة لا يجمع بينها إلا الخطاب المتطرف، فعن أي
ديمقراطية يمكن أن يحدثنا سفراء الدول الغربية الذين يرفضون أن يلتقوا
بقادة منتدى يضم عددا كبيرا من الأحزاب السياسية ومن النقابات العمالية
ومن منظمات المجتمع المدني، وذلك في وقت يسارعون فيه للقاء قادة أحزاب
وحركات لا تضم إلا القليل من الموريتانيين؟ عليكم أن تسجلوا هذه : إن
سفارات الدول الغربية لا تهمها الديمقراطية في موريتانيا، وهي تعمل جاهدة
إلى تهميش وإضعاف الأحزاب الكبيرة التي تتبنى خطابا ديمقراطيا أصيلا،
وذلك في وقت تعمل فيه جاهدة إلى نفخ وبعث الروح في حركات وأحزاب صغيرة،
لا يجمع بينها إلا الخطاب المتطرف.
2 ـ يمكنكم أيضا أن تلاحظوا بأن السفارات الغربية لا تهمها حقوق لحراطين،
وإنما همها أن يتم استخدام حقوق تلك الشريحة المظلومة لتغذية الخطابات
المتطرفة، وهنا يمكنكم أن تسجلوا هذه : لم تهتم السفارات الغربية بمسيرة
الميثاق لحقوق لحراطين، ولم تهتم بقادة هذا الميثاق، ولكنها في المقابل
تهتم بحركة واحدة من هذا الميثاق، وبقائد تلك الحركة، والذي لا يكاد يخرج
من سفارة إلا وفتحت له سفارة أخرى أبوابها، ولا تكاد أن تنتهي مراسيم
تسلمه لجائزة دولية إلا وبدأت مراسيم تسليم جائزة دولية أخرى.
3 ـ هذا السلوك الذي يتصرف به الغرب هو نفس السلوك الذي تتصرف به السلطة
الحاكمة، والتي تعمل جاهدة إلى إقصاء وتهميش الأحزاب السياسية المعارضة
ذات الخطاب المعتدل، وإلى إبدالها وتعويضها بحركات وبأحزاب متطرفة لولا
السلطة القائمة، ولولا سفارات الغرب لما كانت شيئا مذكورا.
4 ـ علينا أن نلاحظ في المقابل بأن هذه الحركات والأحزاب المتطرفة لم
تتعامل بلؤم مع السفارات الغربية، ولا مع السلطة القائمة، فهذه الحركات
والأحزاب ترفض دائما أن تنخرط في أي تحرك واسع لمعارضة السلطة القائمة،
بل إن هذه الحركات تصر دائما على أن تنتقد المعارضة الموريتانية أكثر من
انتقادها للسلطة القائمة، وتحاول دائما ـ وهذا هو أخطر ما في الأمر كله ـ
أن تبرئ الرئيس الحالي، بل وتبرئ كل من سبقه من الرؤساء من المظالم التي
تعرضت لها بعض شرائح ومكونات هذا المجتمع، وذلك لتحملها لمكونة أو لشريحة
واحدة من هذا المجتمع.
إن من أخطر ما في خطاب هذه الحركات المتطرفة، والتي ترعاها السلطة
القائمة بشراكة مع سفارات الدول الغربية، هو أن هذا الخطاب يحاول دائما
أن يبرئ الدولة أو السلطة من كل المظالم التاريخية التي تعرضت لها بعض
مكونات شعبنا، وذلك لكي يتم تحميلها لشريحة "البيظان" دون غيرها، وذلك
بالرغم من أن الأنظمة التي ظلمت وبطشت في الماضي والحاضر لم تكن أنظمة
خاصة بعرق ولا بشريحة واحدة. وهذا الخطاب الذي يحاول أن يحمل لشريحة
واحدة كل ما حدث من مظالم في الماضي هو الذي جعل البعض بدلا أن يعتدي على
المباني الحكومية ( لا أشرع الاعتداء على المرافق العامة) يتجه رأسا إلى
مواطنين أبرياء فيعتدي عليهم، وقد حصل ذلك مع مسيرة العائدين، وحدث أكثر
من مرة مع مسيرات "لا تلمس جنسيتي"، وحدث مع الباعة الصغار لما تم طردهم
من السوق المركزي.
5 ـ حقيقة لقد ابتلينا بسلطة غير راشدة، فلا هي حاولت أن تحل مشاكل الرق
والإرث الإنساني في جو من الحوار والوفاق الوطني، ولا هي حاولت أن تتعامل
مع الخطابات المتطرفة بقوة القانون، بل إنها على العكس من ذلك تفرغت
لإضعاف ولتهميش ولتفكيك الأحزاب السياسية المعارضة، ذات الخطاب السياسي
المعتدل، وكأنها بذلك أرادت أن تخلق فراغا سياسيا لكي تستغله كل الحركات
والتنظيمات المتطرفة الصاعدة، لتخلق بذلك البيئة المناسبة لتفكيك الكيان
الموريتاني.
المثير للسخرية هو أن هذه السلطة التي ابتلينا بها، لم تخجل يوما من رفع
المزيد من الشعارات الفارغة و الزائفة، فهاهي في بداية المأمورية
الثانية تعد في خطاب التنصيب بحماية الوحدة الوطنية وبمحاربة كل الدعوات
الشرائحية والعنصرية، ومع ذلك فها هي تسمح بتنظيم مؤتمر لحركة انفصالية
تدعو لحكم ذاتي في الجنوب، ولا يهم إن كان المؤتمر قد عقد في فندق أو في
منزل خاص، المهم أنه قد عقد، والمهم أن الدعوة لحكم ذاتي قد أطلقت نهارا
جهارا ليس من دولة مجاورة، وإنما من قلب العاصمة نواكشوط.
إنها نفس الشعارات الزائفة تتكرر دائما، لقد وعد الرئيس الحالي في
مأموريته الأولى بمحاربة الفساد والمفسدين، ولكنه بدلا من أن يحارب
المفسدين، وبدلا من أن يلقيهم في غياهب سجن "ألاك" كما وعد بذلك، فإذا
بسجن ألاك خاليا من المفسدين بعد خمس سنوات من الحرب عليهم، وإذا برموز
الفساد قد ارتقوا مرتقى صعبا، وإذا بهم قد بلغوا مكانا عليا، فمنهم
الوزراء، ومنهم من يستشار بالقصر بكرة وعشيا، ومنهم رؤساء مجالس
الإدارات، ومنهم القيادات بالحزب الحاكم.
فيا أيها الموريتانيون عليكم أن تعلموا بأنه لم يعد لدولتكم أي هيبة، فأن
يعقد مؤتمر يدعو إلى حكم ذاتي لمدن الضفة، وكأن الذين دعوا لذلك الحكم
الذاتي هم وصايا على مدن الضفة، والتي هي بالمناسبة ليست خاصة بمكونة
واحدة من مكوناتنا الافريقية الثلاث، ولا حتى خاصة بمكوناتنا الإفريقية
لوحدها، ففي هذه المدن يوجد موريتانيون من أصول عربية، فأن يعقد ذلك
المؤتمر في قلب العاصمة، وبعد أيام معدودات من خطاب المأمورية الثانية
التي وعدت بحماية الوحدة الوطنية، فذلك يعني بأن هيبة الدولة ..البقية في
حياتكم.
ويكفي أن نتأمل في شكل لافتة المؤتمر التي رفعت فيها أعلام لا صلة لها
بالعلم الموريتاني، والتي كتبت عليها الفرنسية بأحرف كبيرة وملونة، ووضعت
فوق العربية التي كتبت بأحرف صغيرة وسوداء لنعرف بأن هيبة
الدستور..البقية في حياتكم.
ويكفي أن نقرأ "قوات التحرير"، ويكفي أن نستمع إلى رئيس هذه الحركة، وهو
يحاول أن يفرض علينا وجود مكونة أخرى داخل المكونة العربية وهي البربر،
وذلك لنعرف بأننا لسنا أمام حركة سياسية ولا حقوقية، وإنما نحن أمام شيء
آخر غير ذلك، وقد كان من المعيب حقا أن يحضر بعض قادة الأحزاب لهذا
المؤتمر ( الرئيس جميل منصور عن تواصل، والرئيس با ممادو آلاسان عن حزب
الحرية والعدالة، بالإضافة إلى ممثل لرئيس حزب إعادة التأسيس).
أما الحادثة الثانية المقلقة فقد تمثلت في "غزوة" على شارع "المقاومة"،
قادها بعض الموريتانيين، واعتدوا فيها فجرا على موريتانيين آخرين، وذلك
بحجة أنهم كانوا يمارسون المنكر على ذلك الشارع.
هنا أيضا يمكنني أن أعزيكم في هيبة الدولة الموريتانية، وفي غيابها
المقلق، فهي كانت غائبة عند حدوث المنكر على شارع "المقاومة"، وكانت
غائبة عندما ظهر بعض "مشاريع الدواعش" وقرروا أن يغيروا المنكر بعصيهم
وبأيديهم بعدما عجزت السلطة عن تغييره.
هذه الحادثة لم تكن فريدة من نوعها، بل سبقتها حوادث مقلقة أخرى، فقد
أهدر "يحظيه ولد داهي" دم "أمنة بنت المختار"، كما أن نفس هذا الشخص كان
قد أطلق تهديدات ضد أشخاص آخرين، ومن قنوات تلفزيونية، ومع ذلك فلم تستطع
السلطة أن توقفه، ولا أن تحاكمه، وربما أنها لا تريد ذلك، فقد يكون هذا
الشخص الذي أصدر فتوى بقتل "آمنة بنت المختار" هو من صنيعة مخابرات
الدولة، والتي تمتلك بالمناسبة خبرة كبيرة في صناعة كل أشكال المتطرفين،
سواء كانوا في المجال التكفيري أو في المجال الحقوقي والسياسي.
حفظ الله موريتانيا..