خلفية: ما هو الحكم الذاتي؟
من ضمن تعريفاته: “قدرة الوحدات المحلية، والإقليمية الفعلية وحقها في تنظيم وإدارة جانب كبير من الشؤون العامة تحت مسؤولياتها، ولصالح سكانها في إطار القانون حيث هذا
الحق يمارس عن طريق مجالس، أو جمعيات، مشكلة من أعضاء منتخبين في اقتراع حر وسري، ويتميز بالمساواة، سواء أكان مباشرا أو عاما، ولهذه الجمعيات والمجالس أن تمتلك أجهزة تنفيذية مسؤولة تجاهه؛ بينما يبقى الإقليم تابعا للدولة”.
لقد تابعت خلال الأيام القليلة الماضية جدلا حادا تجاه ما أطلقه زعيم حركة “المشعل الإفريقي” صمبا اتشام الذي طالب بحكم ذاتي للمناطق الجنوبية بموريتانيا وهي في الحقيقة دعوة صرخ بها الرجل منذ مدة، وليست اكتشافا جديدا أو قنبلة يفجرها..
علي أنا أيضا أن أصرخ بدوري رافضا لهذه الفكرة الغريبة والشاحبة شحوب نوايا مبتكرها دون أن أنسى أني مستعد لدفع رأسي ثمنا حتى يعبر عن رأيه، ولكن علي أيضا أن لا أسلك ذات الطريق الذي أنتقدُه، وأن لا أستدر عواطف الناس ليخيطوا لي جلبابا من الإطراء والمديح؛ فالإطراء عادة يشعرني بالخجل!
التعامل مع هذا الحدث للأسف من طرف النخب الموريتانية غالبا جاء بطريقة غير معمقة، وتخدم أهداف الرجل وتعطي لفكرته هامشا أكبر للحياة والمناورة، ذلك أن غالبية من تحدثوا عنه تحدثوا عن “انفصال” وليس “حكم ذاتي”، وهذا طموح كبير لم يبلغه الرجل حتى الآن؛ غير أنه فيما يبدو مطروح للبعض مما قد يجعل اتشام يقتنع بإمكانية طرح فكرة “الانفصال” بدل “الحكم الذاتي” والذي أعتبر مطلبه نوعا من الراديكالية غير المقصودة لذاتها والتي تجسر لأهداف أقل منها بكثير، فصراع الأجنحة بين ساسة الزنوج يفرض تبني خطاب أكثر راديكالية من خطاب صار إبراهيما وذلك لاقتطاع أكبر نصيب من جماهيره لصالح الوافد الجديد إلى الوطن صمبا اتشام.
محللونا ومثقفونا لم يستطيعوا أن يذهبوا إلى ما وراء الصدمة وهيمنة اللحظة؛ ويغوصوا في الأسباب الموضوعية والتراكمات التاريخية والصراعات السياسية بين القادة الزنوج أنفسهم و اكتفوا بالخلط بين مفهومين مختلفين تماما؛ في المعنى السياسي وفي القانون الدولي وهما “الانفصال” الذي تريده “كازامانس” مثلا و “الحكم الذاتي” الذي يقترحه المغرب على الصحراويين بشكل خجول.
أنا أعتقد أن صمبا اتشام ليس جادا في دعوته؛ لاستحالة تحققها؛ ولما ستواجه هذه الدعوة من رفض حتى لدى سكان المناطق التي يدّعي أنه يمثلها أو يشملها ضمن مشروعه غير المتضح المعالم حتى الآن، ولكن ما أستغربه هو تجريد نخبنا سيوفها أمام أي مطلب لأية فئة من الوطن، وفي نفس الوقت هي التي تمسح أحذية شيوخ القبائل، هذه القبائل التي تضعف الدولة وتنخر قواها بشكل صامت وتجهض مشروعها منذ أكثر من نصف قرن.
إن بروز مثل هذه المطالب التي صدع بها اتشام له جذور أعمق من ذلك التحليل المجاني الذي يختصرها في رغبة رجل شرير في الكيد بموريتانيا، وتدمير “نسيجها المنسجم” ولا أدري كيف ينسجم نسيج مختل التركيبة، ومتناقض المصالح، ولا تمر فيه أية ممارسة للنقد وتعرية للواقع دون تفسيق و تخوين وتحامل؟.
إن بروز مثل هذه المطالب إذن ليس مجرد مؤامرة كما يحب المتعلقون بنظريات المؤامرة ولكنه يعبر عن هشاشة واقع؛ و ترهل دولة ظل العسكر يمسكون بتلابيبها غير عابئين بترسيخ مفهوم الدولة والمساواة والعدالة الاجتماعية في أذهان الناس إلا ما قاموا به من ترسيخ لهيبة “اصنادره” في العقل الجمعي للأمة، حتى صار الناس يختصرون الدولة في العسكر؛ فكل عسكري واحد من الدولة ويحق له ما لا يحق لغيره!
إن دفن الرؤوس في الرمال وممارسة ما يسمى في علم النفس التربوي ب”تغيير المسار” من خلال البناء على فرضية غير موجودة أصلا؛ ومناقشتها من وجهة نظر آنية؛ لن يساهم في حلحلة مشاكل موريتانيا المزمنة، ولن يفيد في استئصال الورم، ولكن سيؤدي إلى ترحيله للمستقبل بوتيرة أشد وخطورة أفدح.
لقد عرفت المناطق الجنوبية والشرقية من موريتانيا إهمالا كبيرا؛ و ظلما كبيرا لا سيما في عهد الرئيس معاوية ولد سيدي احمد الطايع؛ حتى وإن لم تكن فكرة “الانفصال” رائجة بين الساكنة فإن أغلبهم يعيشها على صعد شتى؛ الدليل على ذلك هو حمل أحدهم في إحدى الولايات لراية دولة مالي خلال زيارة اعل ولد محمد فال في فترة حكمه للمجلس العسكري، كما أنك تلاحظ أن الناس لا يتابعون الإذاعة الوطنية بل إذاعات السنيغال ذات البث الجيد على الموجة الترددية؛ كما يسجل غياب بث الإذاعة الوطنية في مختلف تلك المناطق حتى اليوم.
إن الولولة والشتائم قد تجعل أحد هؤلاء المثقفين نجما مؤقتا بين العامة؛ وقد يدعو له الكثيرون بطول العمر و يصفونه بما يحب، ولكن هذه الأساليب ليست طريقة مثقفة ولا علمية للمساهمة في إنقاذ هذه السفينة الآيلة إلى الغرق والتي تزداد فيها الثقوب و الشروخ كل يوم بسبب تحكم العواطف وتوهم كل طرف أنه بإمكانه الاستئثار بموريتانيا دون الآخر،وبسبب عتو الفكر القبلي و تغلغله، وغياب ثقافة الانتماء حتى أن هناك من أصبح يشتم إفريقيا ظنا منه أنه ليس إفريقيا.
إن هذه الأرض الإفريقية العربية البربرية هي نصيبنا من هذه الحياة؛ والذي لا نملك غيره فتعالوا نفكر قبل فوات الأوان، فاتشام لن يحكم جزء من موريتانيا إطلاقا، وغيره لن يظل مستأثرا بكل موريتانيا أبدا، والمظالم التاريخية والاجتماعية تعبر عن نفسها بطرق شتى وكلما تأخر الوقت كانت الطرق أعنف وأغبى.. فهل من عاقل؟