للإصلاح كلمة / د. باب ولد أحمد ولد الشيخ سيدي

الحديث عن التجربة الموريتانية فى مجال الإصلاح يستدعي ضرورة  النظر فى تجارب الأمم والدول ممن كانوا قبلنا، وكان لهم الفضل أو كان لهم سبق التنظير فى الفضائل  الانسانية من حيث الحكمة والموعظة الحسنة وانتشار الخير.

    بهذا المنطق بنيت الحضارات وصارت فى السجل الخالدين بما تركت من آثار ومعاني شكلت الأمل والمرجع لبنى الانسان، إذ أن  استدعاء التجارب مسألة ضرورية وحتمية من أجل الاستفادة من التراكمات التى خلفتها، ولعل الاستئناس هنا  بالتجربة اليونانية بسردية مفرطة؛ قد يعيننا كثيرا على ما نود الإشارة إليه هنا فالعمل أو الإصلاح قد  يعوزه رأي حكيم مسدد الخطى مدعوم بقدرة خارقة تمكنه من انجاز ما عجز عنه، وما كان  مستحيلا بنسبية البشر المعهودة، وقد يكون الجمهور بحاجة إلى إعادة التركيب من جديد، فتصبح التجربة بمعادلاتها  الثنائية تحتاج إلى خلق جديد وتفكير جديد ونمط جديد، اذ تذهب الأسطورة اليونانية فى بداية تأسيسها إلى القول: " كان دوكاليون ملكا عادلا وكانت زوجته بيرها امرأة خيرة، ولذلك قرر زوس كبير الآلهة استثنائهما من الغرق حينما قرر التخلص من بني آدام نظرا لعدم احترامهم للآلهة،  ليبقى  هو وزجته على وجه البسيطة بعدما أغرق الطوفان جميع البشر. وبعض مضي أزمان وجد الملكين العادلين نفسيهما فى حالة وحشة رهيبة استدعت منهم الطلب مجددا فى إعادة البشر من جديد، فأرسل كبير الآلهة رسوله هرمس فأمرهما بأن يأخذ كل منهما حجرا ويلقي به وراءه فنشأ  خلق جديد فصارت أحجار الملك ذكورا  والملكة إناثا".
من هذه الأسطورة يمكن أن نفهم سر  تألق الحضارة اليونانية وبنائها من جديد وفق آليات ومذاهب ترتكز على الاحترام والبحث فى الميادين المختلفة من تنمية بشرية شملت  مختلف الأصعدة و شتى المجالات من أجل الرقي والازدهار بالأمة الخالدة، ليشكل الأمر برمزيته المفرطة جدا والغير الساذجة طرحا مغايرا وبداية جديدة، فالحضارات مثل الانسان تماما  تحيا و تموت وتمرض وتشيخ و يعتريها ما يتعرى البشر ممن مميزات وخصائص تنطبق سير النعل بالنعل على الدول.
فالحضارات وفق هذا التحليل  تندثر  تبعا للأهواء والميولات الشخصية أو الجماعية لتكثر الأنانية والطرح المصلحي فى كل شئ ساعتئذ يحتاج البشر والدول إلى إعادة البناء من جديد تفكيرا ونظرا وروحا  قد كثر غيها وصارت نشازا عن محيطها وعن القواعد العامة للإنسانية المميزة لها عن غيرها،  فيصير البعث من جديد مذهبا لا غنى عنه من أجل تدارك الأخطاء وصقل عقول البشر من الشوائب، كي يبدأ الخلق من جديد وفق دينامية جديدة تخلق النماء والازدهار لحضارة جديدة تؤثر فى الانسانية ويصير لها الذكر الجميل .
سؤال الاصلاح إذا  سؤال فلسفي عميق ومعقد  جدا تكثر دواعيه والحاجة إليه فى الفترة المعاصرة، وفى أي عمر من عمر الدول غير  أن الدعوة والتبشير يكثر فى زماننا هذا، وتتعدد معانيه وفق رؤية المعنيين أيا كانوا ومهما كان طرحهم لكأن كل شخص لديه رؤيته الداخلية فى تغيير المسار والانتباذ قصيا بهذا الطرف القصي بما يخالجه من آراء وفرضيات تنطبق انطباقا كاملا على التجديد وروح الإصلاح، ومع هذا يبقى الحال هو بدون تغيير إلا ماكان من رؤى تترآي لذوى المصالح والنظر الضيق ممن جمعهم الفكر  والنظر فى متع زائلة تقوض المجتمع والحضارة، لتندثر وتذوب ليس من باب الترف والدعة، وإنما هو فقدان القيمة الانسانية وتردى الذوق والطباع على الرأي الخلدوني.
استئناسا بالآراء السابقة والفرضيات يستشف أن اصلاح الدول والبشر ليس أمرا باليسير ولا حدث عابر فى شكل خطاب معين، فالأمر  ليس بالتمني ولا المطالب الجمعوية العامة فى أسسها الملتفة  والمنضوية حول أي خطاب مهما كان أحرى إذا كان نابعا من سلطة بغض النظر عن نوعيتها أو رمزيتها، فالأمر سيان فى المجتمعات المحتاجة للإصلاح بمتخيلاتها الأسطورية وأسسها المبني عليها.
ولا أدل على ذلك من قراءة مبسطة جدا لواقع البلد استئناسا بماضيه من أجل اكتشاف اللبس والعلامات الفارغة فى تاريخ هذا المجتمع والمبررة والواجدة العذر فى أي أمر مادام من  صناع القرار أو ممن يتصورون ذلك التصور، غير أن هذا لا يعني بالضرورة انصياع الجميع تحت قبة الولاء لكل شئ اعتمادا على أنماط معينة  فى التفسير والحكم والنظر فى المصالح العامة، مما ينفى جدة بعض الموافق أو الحكم عليها مستقبلا فيبقى المفهوم حاضرا لدى كل الأجيال لتجد فيه بصيصا من أملها المفقود ومرتجى يبعدها نظريا عن الحكم عليه أو التلميح على انحراف المسار. فالوقوف مع اللحظة والزمن مسألة ضرورية وواقعية جدا من أجل روح الإصلاح حتى لا أقول الانتقال من عوالم مظلمة إلى أخرى تتجسد فيها الأحلام والأماني، ومالم يكن مدركا ولا متخيلا فى فترة وجيزة، فالقول هنا يقتضي ثلاث أفكار أساسية من أجل انطلاقة فعلية تأخذ فى الاعتبار بعد الإصلاح وأسسه المحتاجة إلى الصبر والمثابرة وتنقية الأجواء و إنارة العقليات بروح تنتهج التضحية والإقدام بالنظر إلى الزمن وإعطاء الفسحة من أجل التغيير والوصول  إلى نماذج أفضل فى العطاء والتسيير. لتأسس هذه الأبعاد حسب نظرنا على ثلاث مرتكزات هي:
ـ التعاطي والنظر إلى القضايا بنظرة شمولية تبتعد كل البعد عن منطق المنافع والمصالح والطرح الجزئي المغيب لروح الإصلاح ودواعيه الأسمى. لتشكل هذه الدوافع مجتمعة بداية الانطلاقة الفعلية للمشروع النخبوي من أجل اصلاح ما أفسد الدهر أو البشر .
ـ اشراك الفاعلين وأولى الكفاءة واقامة الورشات الضرورية من أجل وضع ثقافة اصلاحية جديدة تقف على مبدأ اظهار التطمينات والأفكار المعقولة سيرا على أن أي فكرة مهما كانت تحتاج قبل كل شئ إلى قابليتها للتحقق، وثانيا النظر إلى البدايات بنظرة شمولية لا تتجزأ من  أجل الوصول إلى  حلول أمثل وأصوب.
ـ النظر إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كي لا يظل الأمر دولة بين نخبة تتمني بأفكارها وآرائها  وتظهر من حين إلى آخر خللا فى المسار أو انتقادا  لكنها مبتعدة عن الإدلاء بالأمور الواقعية، أو بين متحكمين لديهم أفكارهم الوردية  والمستمسكين بهداها، وتبقى غالبية الشعب بين الرأيين ترى فيهما الحلم والامل لكنها تصنفهما على وجهتين متمايزتين  تاركة الأول  لحين ومندفعة فى  الخيار الثاني.
  بهذه الأبعاد  يمكن أن نطلق فعلا بروح ونفسية جديدة تعكس الحاجة والضرورة الداعية إلى تحرك يسمو على المصالح الضيقة والنظر بعين الفرص واغتنماها و التوجه أينما و جدت أو ظهرت أو كان أملها وهو ما يتحاج إلى إعادة التصويب ودراسة النفسيات والمبادئ من أجل انطلاقة فعلية متصالحة مع الذات والضمير .

2. سبتمبر 2014 - 10:35

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا