إنّ الفقهاء الذين برّروا التحصيل يوم الجمعة لا يمكنهم - شرعا - تبرير التعطيل في السبت والأحد، ذلك أنّ عموم الأدلة دلّت بالفحوى والإشارة إلى مكانة هذا اليوم بين سائر الأيام؛ ومدى خصوصية هذه الأمة به دون سائر الأمم، غير أنّ هذه الأدلة لم تغلق باب التعطيل كما يحب آخرون؛
بل إنّ دائرة الإباحة تركت مساحة أشارت أدلّة أخرى إلى جواز التحصيل في هذا اليوم العظيم دون حرج أو مذمة؛ والفقيه المتمكّن هو الذي يجمع بين الأدلة ويقيس الأشباه بنظائرها دون حاجة في نفسه تمنعه من الموازنة بين ما حكمه الجواز والإباحة وبين ما حكمه الندب؛ دون إصرار أهل التحصيل وأغلال أهل التعطيل في تحريم المباح.
إنّ إيجاب أهل التحصيل للتحصيل في هذا اليوم – المبارك - ببعض الأدلة التي دلّ ظاهرها على العمل بعد الجمعة يجعلنا أمام مأزق تمنعه الفلسفة الأصولية؛ ذات النظرة البعيدة عن نظرات أنصاف الفقهاء والأصوليين؛ أصحاب الحلول المجتثة والمقصورة على بعض آي القرآن – الكريم – دون باقي المحكمات الأخر؛ التي دلّت على نماذج فقهية لا تختلف عن غيرها في سياقها الدلالي؛ بحكم اتحاد المصدر والهدف والغاية.
لقد ذهب جمهرة أهل العلم من الأصوليين إلى القول بأنّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة وانتشرت هذه القاعدة في مختلف مصنّفات الفلسفة الأصولية؛ فغاية قول الباري - عزّ وجلّ - {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } جواز الانتشار في الارض دون لزومه؛ ذلك أنّ الأمر جاء بعد حظر البيع عند إقامة صلاة الجمعة، فيرجع الحكم اللاحق – الداعي إلى الانتشار – إلى سابق عهده وهو الإباحة. وهذا كثير في كتاب الله، مثل قوله { وإذا حللتم فاصطادوا } و قوله {وأطعموا القانع والمعتر } وقوله { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ولم يقل أحد من أرباب المعقول والمنقول بوجوب الاصطياد ولا الإطعام ولا المكاتبة! وإنّما جاء الأمر على سبيل الجواز والندب.
ومما يحتجُّ به على المالكيين – أصحاب التحصيل – ما ذكره ابن جرير الطبري في جامع البيان عن مالك أنّه قال: فإنما ذلك أمر أذن الله فيه للناس، وليس بواجب على الناس ولا يلزم أحدا.
يقابل هذا الفريق مذهب أهل التعطيل، أصحاب النظرة الظاهرية؛ حيث أوجبوا التعطيل في الجمعة دون نظر في الأدلة الدالة على جواز العمل والانتشار بعد الجمعة - كما هو ظاهر الكتاب - محتجين بعموم بعض الآثار الدالة على أفضلية الجمعة وتكريم هذه الأمة وبخصوصيتها بها دون أن تلزم - هي الأخرى - أحكاما غير منع البيع ساعة الجمعة وما يدخل في معنى النهي من الأعمال الأخرى.
لقد كان الناس في عهد عثمان – رضي الله عنه – يشتغلون في أسواقهم يوم الجمعة؛ ولم ينكر أحد من علماء الصحابة – رضي الله عنهم – عليهم فعلهم ذلك؛ غاية ما في الأمر أنّ الخليفة أمر بالأذان – الأول – في ذلك اليوم من فوق الزوراء، إيذانا بالصلاة وأعلاما بضرورة ترك أسواقهم من أجل التبكير إليها؛ وقد أخذ أهل الاجتهاد وفقهاء الأمصار بهذا الإجماع السكوتي وعملوا به وأمروا به من يستفتونهم في هذا الشأن؛ ولو كان في الأمر حرج لما أخرّ فقهاء الصحابة البيان مع حاجة الناس إليه بحكم عموم البلوى.
وقد جاء في الموطأ أنّ رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – دخل المسجد يوم الجمعة، وعمر بن الخطاب يخطب، فقال عمر: أية ساعة هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين انقلبت من السوق، فسمعت النداء، فما زدت على أن توضأت. مما يدلُّ دلالة واضحة على أنّ الصحابة كان يشتغلون في هذا اليوم دون نكير – على حدّ العمل – وإنّما ندبوا الناس إلى التبكير كما دلّت عليه نصوص أخر.
وقد كره المالكية – رحمهم الله – ترك التحصيل في يومها إذا كان بقصد التشبه باليهود في سبتهم والنصارى في أحدهم؛ وأمّا إذا كان التعطيل من أجل الراحة والاستعداد للتبكير إليها فهو أمر ندب واستحباب غير إلزام وإيجاب.
إنّ التعطيل في السبت أو الأحد فيه مشابهة صريحة لما عليه اليهود والنصارى- وقد نهى الشارع عن التشبه بهم - وترك العمل في الجمعة لذات الغرض والقصد فيه مشابهة أخرى لما عليه أهل الكتاب؛ وهذا خلاف هدي السلف وأهل الصدر الأول من المسلمين، الذين كانوا أحرص على الخير وأقرب إليه من غيرهم، وأدرى بفهم النص الشرعي؛ بحكم مواكبتهم للتنزيل ومعرفتهم للأسباب والحوادث.
ثم إنّ ازدواجية التحصيل يوم الجمعة والتعطيل في يومي السبت والأحد؛ تدعو إلى شيء من الريبة! فلماذا لا يبرّر فقهاء التحصيل الموقف الشرعي من حكم التعطيل في يومي السبت والأحد، ويذكروا آثارا عن سلف الأمة في ضرورة التعطيل أو على الأقلّ يستحضروا شيئا من فقه الموازنة بين سائر الأيام، ويرفعوا إلى صاحب الشأن العام، هذا الأمر كما رفعوه إلى الرعية بحكم الأمانة التي توجب – عليهم – ضرورة النهي عن تأخير البيان عن وقت حاجته؟
على فقهاء التحصيل أن يدركوا أنّ الأمر الوارد في شأن الانتشار – يوم الجمعة – ليس على إطلاقه؛ بل دائر في خانة الإباحة، وأن يدرك فقهاء التعطيل أنّ الآثار الواردة في فضل الجمعة لا تدلُّ – شرعا – على ضرورة ترك العمل، بحكم عمل الصحابة وعدم إنكار بعضهم على بعض، وأن يدرك من بيده زمام الأمر أنّ الأرزاق بيد الله، وأنّ تحصيل الجمعة لن يزيد في قدره شيئا، وأنّ تعطيل السبت والأحد ساق سلفه إلى عضّ أصابع الندم.