طالما سمعنا عن الحث عن برور الوالدين وأن البار ليفعل ما يشاء، فمصيره إلى الجنة، وأن العاق فليفعل ما شاء فمصيره إلى النار، وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم للبعض القعود عن الجهاد في وقت الحرب الملحة والمرحلة الأولى من نشر الإسلام بالدعوة والسيف معا،
وخاطبه لوجود والدين ضعيفين قائلا صلى الله عليه وسلم، "ففيهما فجاهد"!
وقال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ".
ولا غرابة في وجود حالات معزولة معدودة، أما أن يكون الأمر الفظيع الجلل الخطير ظاهرة تستفحل يوما بعد يوم وتتزايد وتتصاعد دون توقف، فذلك موضوع حساس منذر بالانفجار الاجتماعي، يستحق البحث وسبر الأغوار والفحص الجاد.
و نقتبس هنا هذا الدرس جملة وتفصيلا لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي لتبيين جوانب مهمة في أهمية برور الوالدين وخطورة عقوقهما، عسى أن نقف بشكل نموذجي على الجانب الشرعي والأخلاقي، مفصلا بشكل واف أو قريب من ذلك، بشأن هذا الباب الجوهري من الأخلاق الإنسانية: "الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
يجب أن يعين الآباء أبناءهم على برهم:
أيها الإخوة المؤمنون... لازلنا في الحديث عن حقوق الآباء على الأبناء، ولكن هناك ملاحظة أريد أن أضعها بين أيديكم، هي أن الآيات الكريمة المتعددة، والأحاديث الشريفة الكثيرة، التي تحضّ الأبناء على أن يكونوا بارين بآبائهم، هذه الآيات والأحاديث ينبغي أن تحْمل الآباء على أن يكونوا في مستوى الأبوة المطلوب، مادام ربنا سبحانه وتعالى يحضُّ الأبناء على أن يكونوا بارين بآبائهم، فالآباء يجب أن يكونوا في المستوى المطلوب، فقد ورد في الأثر:
(( رحم الله والداً أعان ولده على بره ))
وورد أيضاً:
(( من أكل من مال ابنه فليأكل بالمعروف ))
يعني: ربنا سبحانه وتعالى في آيات كثيرة وأحاديث كثيرة، يحضّ الأبناء على برّ آبائهم، فينتظر من الآباء أن يكونوا مثالييِّن في معاملة أبنائهم.
أفضل البر بالوالدين، متى يكون، وأين يكون:
ربنا سبحانه وتعالى في الآية التي بدأنا شرحها في الدرس الماضي يقول:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
( 23 سورة الإسراء: آية)
تشتد حاجة الآباء إلى البر عند كبر سنهم:
[تشتد حاجة الآباء للبر عند الكبر]الحقيقة أن الأب الشاب اليقظ الواعي هو في غنى عن ابنه، ليس في هذا شك، ولكن متى تشتد حاجة الأب إلى ابنه ؟ إذا بلغ من الكبر عتياً، إذا تقدمت به السن، إذا ضعف بصره، إذا انحنى ظهره، إذا خارت قواه، إذا ضعفت ذاكرته، إذا كلَّت يده، إذا أصبح عبئاً على ابنه، يكون الأب في أشد حالات الحاجة إلى ابنه إذا تقدمت به السن، وإذا وقف كسبه، وإذا أصبحت حاجاته كثيرة، وأدويته كثيرة، ومطالبه كثيرة، وله أبناء في أوج شبابهم، وفي عنفوان رجولتهم.لذلك ربنا عزَّ وجل أشار في هذه الآية إلى الكبر:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
( 23 سورة الإسراء: آية)
بر الوالدين يكون في بيت الولد لا في مأوى العجزة:
[زج الآباء في مأوى العجزة جريمة لاتغتفر]أشارت الآية أيضاً في كلمة ( عندك ) إلى المعنى التالي:الابن أحياناً يكون أبوه قد تقدمت به السن ولكنه يقطن عند أخيه، فيزوره من حينٍ إلى آخر، ويقدم له واجبات الخضوع والمحبة ويجلس قليلاً وينصرف، أما عبء الأب فهو على الأخ الثاني، فالله سبحانه وتعالى في هذه الآية يشير إلى أن حقوق الأب تشتد ويعظم أجرها إذا بلغ من الكبر عتياُ وكان ( عندك ) في البيت، أي: كنت أنت ترعاه.فبعض الدول الغربية تفتخر بأن لديها مأوىً للعجزة، أي أن هذا الإنسان إذا تقدمت به السن التحق بهذا المأوى، قد يقدموا له كل شيء، أطيب الطعام، وكل الخدمات الصحية ولكن لا يستطيعون أبداً أن يقدموا له المحبة، ولا العطف، ربما كانت سعادة الأب أن يمتِّع نظره بأولاده، فإذا زجّوه في مأوى العجزة، وتخلوا عنه، وأنفقوا عليه الأموال الطائلة، فوالله قد فعلوا في حقه جريمة لا تغتفر.لذلك، الإسلام يوجد فيه نظام التضامن الاجتماعي، أي أن كل أُسرة متضامنة متكافلة فيما بين أفرادها، فلو تقدمت بالأب السن، لو ضعف بصره، لو خارت قِواه، لو أصبح عاجزاً، إنه بين أولاده، بين بناته، بين أقربائه، هذا الذي ينسيه ألمه، فإذا زجَّ في مأوى العجزة، فَقَدَ العطف، فقَدَ الحنان، فكيف إذا كان هذا المأوى فيه القسوة وفيه الضرب وفيه الإيذاء بالكلام ؟سمعت قصة امرأة لها أموال طائلة أكثرها غير منقول ؛ أي حوانيت وأبنية وبيوت وأراضٍ ومزارع، تقدمت بها السن، وفقدت حركتها، أودعها أولادها في مأوى العجزة، لأن زوجاتهم أبَيْنَ أن يخدمنها، فحينما رأت نفسها في مأوى العجزة وأن أولادها الذين ربتهم تخلوا عنها، استدعت الكاتب بالعدل، وكتبت للجمعيات الخيرية كل أموالها، عقاباً لهؤلاء الأولاد الذين كفروا فضل أمهم عليهم.لذلك:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
( 23 سورة الإسراء: آية)
روى الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:
(( رَغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكِبَر فلم يُدْخِلاه الجنة ))
قال الراوي: وأظنه قال:
(( أو أحدهما ))
من حديث صحيح، أخرجه الترمذي
أي: أن تكون باراً بأبيك وقد تقدمت به السن، وقد ضعُف بصره، وقد خارت قِواه، وقد ضعفت ذاكرته، وقد فقد ضبط نفسه، بأن يبقى عندك معززاً مكرماً مخدوماً، فهذا العمل من الأعمال التي يستحق عليها الإنسان كلَّ إكرامٍ في الدنيا قبل الآخرة، وما رأيت إنساناً موفقاً في حياته إلا بسببٍ وجيهٍ من برهِ بوالديه، فمن كان له أبٌ حيّ فليغتنم هذه الفرصة، إنها فرصة العمر، فرصةٌ لا تعوض، وكذلك الأم.
دور اللسان والكلام في ميدان البر بالوالدين:
من ذلك:
كلمة ( أف ) ومعانيها السيئة:
قال تعالى:
﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾
( سورة الإسراء، آية 23 )
الأُف: اسم فعل مضارع، أي أتضجر، وهي من الكلام الرديء الخفي، فحتى لو رأى الابن من أبيه شيئاً لا يحتمل، لا ينبغي أن يقول له: أُف، كل ما يُضجِر ويستثـقل ويقال له أُف،إن كان من الأب، لا ينبغي أن يقول الابن هذه الكلمة لأبيه، ورد في الأثر:
(( لو علم الله من العقوق شيئاً أقل من أُف لذكره))
[فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما]يعني أقل شيءٍ في العقوق أن تقول: أُف، وهو زفير بصوت مسموع، وهو تضجر. ولو علم الله من العقوق شيئاً أردأ من أف لذكره،فليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار، وليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة.لكن إياكم أن تتوهموا أن البار بوالديه لو عصى الله عزّ وجل فإنه يدخل الجنة هذا ليس مقصوداً من هذا الكلام.كلمة أُف ـ بالتعريف الدقيق ـ رفض للأب، رفض لنعمته وجحود لتربيته، وردّ للوصية التي أوصانا الله بها بحق الآباء، وهذا معنى كلمة أُف، والدليل هو قول الله عزّ وجل على لسان سيدنا إبراهيم حيث قال لقومه:
﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
( آية 67 سورة الأنبياء )
يعني أنا أرفضكم بسبب كفركم، وأرفض عبادتكم، وأرفض موضوع عبادتكم.
ما يساوي كلمة ( أف ) من ردود الأفعال القبـيحة:
العلماء قالوا: " مجرد النظر إليهما بغضبٍ يعتبر عقوقاً "[النظر بغضب للأبوين من أشكال العقوق]يعني إذا نظر إلى أبيه بعبوس، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ما برّ أباه من سدد إليه الطرف بالغضب ))
حديث أخرجه الطبراني في الأوسط، وأحد رجاله متروك
بل إن إغلاق الباب بعنفٍ من العقوق أيضاً، وهو يساوي أُف.ووضع الإناء بعنف من العقوق.أحياناً يغضب الابن، فيقود سيارته برعونة ليعبر عن غضبه من أبيه، هذا أيضاً من العقوق، وفي الأثر:
(( لم يتلُ القرآن من لم يعمل به، ولم يبرَّ والديه من أحدَّ النظر إليهما في حال العقوق أُولئك براءٌ مني وأنا منهم بريء ))
القول الكريم واجب في حق الوالدين:
قال تعالى:
﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
( 23 سورة الإسراء: آية)
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾
( 24 سورة الإسراء: آية)
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
( 23 سورة الإسراء: آية)
النهر: يعني الزجر والغلظة.وقل لهما قولاً كريماً: يعني قولاً ليناً لطيفاً، يا أبتاه، يا أُماه، من غير أن يسميهما أو يُكنيهما، يعني لو أن الأب اسمه سعيد وكنيته أبو أحمد، الأولى أن تخاطبه بأن تقول له: يا أبتِ، يا أبي، يا أبتاه، وهذا أولى من أن تقول: يا أبا أحمد.أنا مرة اصطحبت أحد الإخوة في مسجدنا لعند ابنه لقضيةٍ، فلما دخل عليه، ناداه ابنه بكُنيته لئلا يشعر أحد أنه أبوه، وقال: اجلس هنا يا أبا فلان، وأبوه شخصية مرموقة، لكنه ما أراد أن يُعرّف الناس أن هذا والده.لذلك الأولى أن يناديه بكلمة يا أبتاه، يا أبي، يا والدي، من غير أن يسميهما باسمهما أو أن يناديهما بكنيتهما، وابن المسيب يفسر قوله تعالى:
﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾
( 23 سورة الإسراء: آية)
قال: " القول الكريم كما يخاطب العبد سيداً فظاً غليظاً "، أي كأن عبداً مذنباً يخاطب سيداً فظاً غليظاً فإنه يتلطف، ويرجو، ويتضرع، ويتحبب، ويتوسل.
بعض الآداب الواجبة في حق الوالدين:
من بَر الوالدين، ألا يرفع الابن يديه إذا كلمهما، أي أنه لا يشير بيديه حين يتكلم معهما، فيرفع يده ويخفضها، لأن حركات اليدين في أثناء الكلام استخفاف بالأب، لذلك من بر الوالدين ألا يرفع الابن يديه في أثناء مخاطبته أمه أو أباه.عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(( أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ومعه شيخ فقال له: " يا فلان من هذا معك ؟ ". قال: أبي. قال: " فلا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه، ولا تستسب له " ))
حديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا اثنين فيهما كلام
لا تستسب له: أي لا تكن سبباً في سبه، هذا من أدب النبي عليه الصلاة والسلام
ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( ما من مسلم يصبح ووالداه عنه راضيان إلا كان له بابان من الجنة، وإن كان واحداً فواحد، وما من مسلم يُصبح ووالداه عليه ساخطان إلا كان له بابان من النار، وإن كان واحداً فواحد ))
حديث أخرجه ابن أبي عمر في مسنده، بإسناد ضعيف جداً
إذا عق والديه فأبواب النار مفتحة له، وإذا برَّ والديه فأبواب الجنة مفتحة له.
الولد وما يملك ملك لأبيه:
[الولد وما يملك ملك لأبيه]تروي كتب السيرة أن رجلاً جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله إن أبي قد أخذ مالي، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( اذهب فأتني بأبيك ))
شيءٌ دقيق جداً، إنسان شكا لك على إنسان، فمادام يتكلم وحده سيتكلم ما يحلو له، سيخفي بعض الحقائق، سيبرز بعض الحقائق، سيبالغ ببعض الحقائق، لكن إذا قلت له اذهب وأتني به، أنا أؤكد لكم أن تسعة أعشار ما كان ينوي أن يقوله سوف يسكتُ عنه، إذا أحضرت المتخاصميْن مع بعضهما أمامك، فإن تسعة أعشار ما ينوي أحدهما أن يقوله في غيبة الآخر سوف يسكت عنه، فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا قال:
(( اذهب فإتني بأبيك ))
اسمع من الطرف الآخر، قال سيدنا سليمان:
﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾
( آية 27 سورة النمل )
تريّثْ، استمع من الطرف الآخر، حق الدفاع مشروع، قال له:
(( اذهب فأتني بأبيك ))
روت كتب السيرة أن سيدنا جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
(( " إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه " ))
أي أن الشيخ في طريقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام كان يحدث نفسه، وكل واحد منا إذا كانت عنده مشكلة، فإنه يمشي وهو يحدِّث نفسه، هذا حديث النفس، يبدو أن هذا الشيخ لشدة ألمه من ابنه كان يحدث نفسه شعراً، فسيدنا جبريل جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن الشيء الذي قاله في نفسه..
(( فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بال ابنك يشكوك، أتريد أن تأخذ ماله ؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقته إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إيه دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك ". فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت شيئاً في نفسي ما سمعته أذناي فقال: " قل وأنا أسمع " قال: قلت:
غذوتك مولوداً ومنتك يافعاً تُعِلًّ بما أجني عليك وتنهلُإذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبِتْ لسقمك إلا ساهراً أتململُكأني أنا المطروقُ دونك بالذي طُرقتَ بهِ دوني فعيني تهملُتخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجلفلما بلغتَ السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤملجعلتَ جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضلفليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعلتراه معداً للخلاف كأنه بردٍّ على أهل الصواب موكل
قال: حينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه فقال:
(( أنت ومالك لأبيك ))
القصة أخرجها الطبراني عن جابر بن عبد الله، ولها شواهد مختصرة رجالها رجال الصحيح
النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وأمسك الابن من تلابيبه وقال: أنت ومالك لأبيك، من أنت ؟ ما أنت إلا حسنة من حسنات أبيك.
حدود البر بالوالدين:
لكن بر الوالدين له حدود، لو أن الأم أو الأب أمرك أن تكفر بالله أو أن تكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام، ماذا تفعل ؟ الله سبحانه وتعالى علمنا فقال:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
( سورة العنكبوت: آية 8 )
قصة سيدنا سعد رضي الله عنه مع أمه، قال: " كنت باراً بأمي فأسلمتُ، فقالت: لتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيَّر بي، ويقال لك: يا قاتل أُمه. وبقيت يوماً أو يومينً لا تأكل ولا تشرب، فقلت: يا أماه لو كانت لكِ مائة نفسٍ، فخرجت ًواحدةً تلو أخرى، ما تركت ديني هذا، فكلي إن شئت أو لا تأكلي ".
يعني في موضوع الإيمان بالله، وموضوع طاعة الله، يتوقف هنا رضا الأُم والأب " فكلي إن شئت أو لا تأكلي "، لكنها أكلت، فلما رأت ذلك أكلت، ونزل قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾
( سورة لقمان: آية 15 )
بعض الأحكام المتعلقة ببر الوالدين:
بعض الأحكام الشرعية المتعلقة في هذا الباب:
1- طاعتهما تكون في ميدان المباحات لا في المعاصي:
طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب الكبيرة أو ترك الفريضة، هذا الحكم الشرعي المستنبط من هذه الآية، هذا شيءٌ مقطوعٌ به، وتلزم طاعتهما في المباحات، الأشياء المباحة يلزمك أن تطيعهما فيها، ويستحسن ترك المندوبات من أجلهما، مثال ذلك:الأكل على الطاولة، وأبوك يغضب بسرعة، وأنتم في شهر رمضان، وتريد أن تصلي أنت وزوجتك وأولادك المغرب قبل الإفطار، والأب يحب أن يأكل مع الأذان، فأن تصلي قبل الإفطار هذا مندوب، فإذا تركت الصلاة قبل الإفطار، وصليتها بعد الإفطار إرضاءً لأبيك وحفاظاً على أعصابه فإن هذا مطلوبٌ منك، فهذا ترك المندوبات، أما في المباحات فأنت ملزمٌ بطاعتهما، وفي ارتكاب الكبائر أو ترك الفرائض لست ملزماً بطاعتهما، أما إذا رأيت أن ترك بعض المندوبات مما يريحهما فلا عليك إذا فعلت هذا من أجلهما، هذا هو الحكم الشرعي.
2- طاعتهما مقدمة على الجهاد الكفائي إن لم يأذنا:
كذلك ترك الجهاد الكِفائي، الجهاد الكِفائي إذا قام به البعض سقط عن الكل، يعني إذا الإنسان تطوع في الخدمة العسكرية، فالتطوع يحتاج إلى إذن الوالد، أما الخدمة الإلزامية فلا تحتاج، الجهاد العيني هذا ليس بإذن من الوالد، ترك الجهاد الكِفائي من أجلهما، أو الإقدام عليه فبإذنهما.
3- يجوز ترك الصلاة النافلة من أجل إجابة الوالدين:
تحدثنا في الدرس الماضي عن إجابة الأُم في الصلاة، فإذا أمكنك أن تعيد الصلاة وكانت في حاجةٍ إليك لا عليك أن تدع الصلاة من أجلها.
كمال طاعات سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً:
(( " من أصبحَ منكم اليوم صائماً " ؟ قال أبو بكر الصِّدِّيق: أنا، قال: " فمن تَبِع منكم اليوم جنازة " ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: " فَمَنْ أطعم منكم اليومَ مِسْكِيناً " ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: " فمن عاد منكم اليوم مريضاً " ؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ما اجْتَمَعْنَ في رجل إلا دخل الجنة " ))
حديث صحيح، أخرجه مسلم
يعني سيدنا الصديق كان سباقاً ؛ في بر الوالدين، وفي إطعام الطعام، وفي رد السلام، وفي تشيع الجنازة..
بر الوالدين من صفات الأنبياء:
لا تنسوا أن الله عزّ وجل نوَّه بالأنبياء الكرام وبرِهم بآباءهم، فقال متكلماً عن سيدنا يحيى:
﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ﴾
(سورة مريم، آية 14)
وعن سيدنا عيسى:
﴿ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ﴾
( آية 32 سورة مريم )
وعن سيدنا يوسف:
﴿ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ﴾
( سورة يوسف: آية 100 )
وعن سيدنا إسماعيل:
﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾
( آية 102 سورة الصافات )
تروي بعض الكتب ـ من باب التفصيلات ـ أن سيدنا إسماعيل عليه السلام قال: " يا أبت إذا أردت ذبحي، فاشدد وثاقي لئلا يصيبك شيءٌ من دمي فينقص أجري، وإن الموت لشديد ولا آمن أن أضطرب عنده إذا وجدتُ مسه، فاشحذ شفرتك حتى تُجهز عليّ، فإذا أنت أضجعتني لتذبحني فاكببني على وجهي، فإني أخشى إن أنت نظرت إلى وجهي أن تأخذك الرقة فتحول بينك وبين أمر ربك، وإن رأيت أن تردّ قميصي إلى أُمي، فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فافعل، قال إبراهيم: نعم العون يا بني أنت على أمر الله.ما هذا الابن ؟.. نِعم العون يا بني أنت على أمر الله، ثم إنه هم بالتنفيذ، فتله للجبين ليذبحه فنودي:
﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (*) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾
( آية 104،105 سورة الصافات )
وافتُديَ بكبشٍ عظيم، وجده إبراهيم على مقربةٍ منه فذبحه.يعني نحن جميعاً نرى القضية سهلة، اُفتدي بكبشٍ عظيم، هذا متى عرفته أنت ؟ بعد أن اُفتدي، أما حينما أمره الله بذبح ابنه هل كان يعلم أن هناك حل لهذه المشكلة ؟
﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾
( آية 106 سورة الصافات )
الآثار الطيبة لبر الوالدين:
منها:
الالتجاء إلى الله ببر الوالدين ينجي من الكروب:
النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح المتفق عليه ـ أي اتفق عليه الشيخان،البخاري ومسلم، وهذا أعلى مستوى من الأحاديث الصحيحة ـ عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:
(( انطلقَ ثلاثةُ نَفَر ممن كان قبلكم، حتى آواهم المبيتُ إِلى غار، فدخلوه، فانحدرتْ صَخرَة من الجبل، فسَدت عليهم الغارَ، فقالوا: إِنه لا يُنجيكم من هذه الصخرة إِلا أن تَدْعُوا الله بصالح أعمالكم.. ))
كل واحد منا وقع في مشكلة أو في ورطة، أو لاح له شبح خطر، أو لاح له شبح مصيبة، كمرض عُضال لا سمح الله، أو دمار للمال فجأةً، إذا وقع أحد في مشكلة كبيرة جداً، لا ينام لها الليل، فالسُنة النبوية أن تدعو الله بصالح عملك.حدثني رجل كان من تجار الأغنام التقيت به وكان عمره يزيد على التسعين عاماً، وقال لي: " إنني خرجت لِتَوي من الفحص الطبي فكانت النتيجة سليمة مائة بالمائة "، أي أنه لا يشكو شيئاً وهو في التسعين، وقد أقسم لي أنه لا يعرف الحرام بكل أنواعه، وكان باراً بوالديه، فقال لي: " كنت في البادية مرةً، وامرأة راودته عن نفسه، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، واشترى قطيعاً من الغنم وسار به، فأدركهم العطش إلى درجةٍ أنه وأغنامه أصبحوا على وشك الموت، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنني عففت عن هذه المرأة خوفاً منك ففرج عنا. هذه سنة، يعني إذا أحب الله عزّ وجل أن يمتحن إنساناً، وضعه في ورطة، أو في مشكلة.. الطريق انقطع، عطش شديد، مرض شديد، مشكلة كبيرة، شبح إتلاف المال كله، فعليه أن يدعو الله بصالح عمله، يا رب إن كنت تعلم أنني فعلت هذا العمل من أجلك وخالصاً لك لا أبتغي به شيئاً فأنقذني من هذه الورطة، هذه هي السنة.
(( قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخانِ كبيران، وكنتُ لا أَغْبُقُ قبلهما أهلا ولا مالا.. ))
الغبوق: معناه شرب الحليب مساءً
(( فنأَى بي طلبُ شَجَر يوماً، فلم أَرُحْ عليهما حتى ناما.. ))
أي عدت إلى البيت فإذا هما نائمان
(( فَحَلَبْتُ لها غَبوقَهُما، فوجدتهما نائمين، فكَرِهتُ أَن أَغْبُقَ قبلهما أهلا أو مالا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى بَرَقَ الفَجْر.. ))
لا يشرب قبلهما حتى استيقظا من نومهما
(( فاستيقظا، فشرِبا غَبوقَهُما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك، ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرَجَتْ شيئاً لا يستطيعون الخروج.. ))
لكنها تزحزحت
(( قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: قال الآخر: اللهم كانت لي ابنةُ عمّ، كانت أحبَّ الناس إِليَّ، فأردُتُها على نفسها، وامتنعت مني، حتى أَلَمَّتَ بها سَنَة من السنين.. ))
أي: فقرٌ شديد
(( فجاءتني، فأعطيتُها عشرين ومائةَ دينار، على أن تُخَلِّيَ بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إِذا قَدَرْتُ عليها، قالت: لا أُحِلُّ لَكَ أَن تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلا بِحقِّه، فتحَرَّجْتُ من الوقوع عليها، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناس إِليَّ، وتركتُ الذهب الذي أعطيتها، اللهم إِن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافْرُج عنا ما نحن فيه، فانفرَجَتِ الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها ))
(( قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم استأَجَرْتُ أُجَرَاءَ، وأعطيتُهم أجرَهم، غير رَجُل واحد، تَركَ الذي له وذهب، فَثَمَّرتُ أَجْرَهُ حتى كَثُرَتْ منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله، أَدِّ إِليَّ أجري، فقلت: كلُّ ما ترى من أَجْرِكَ، من الإِبل والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئُ بي، فقلتُ: إِني لا أستهزئُ بك، فأخذه كلَّه، فاسْتاقه، فلم يتركْ منه شيئاً، اللهم فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافْرُج عنا ما نحن فيه، فانفرجتِ الصخرة، فخرجوا يمشون ))
حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود
يعني إذا الإنسان وقع في شدة، فعليه أن يدعو الله بصالح عمله.
دعوة الأب لابنه، دعوة مستجابة:
وعن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( ثَلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَاباتٌ، لا شَكَّ في إجابَتِهنَّ: دَعوَةُ المظلُومِ، ودَعوةُ المُسَافِرِ ودَعوةُ الوَالِدِ على الولد ))
حديث حسن، أخرجه الترمذي
وفي الأثر:
(( أربعةٌ دعوتهم مستجابة، الإمام العادل، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، ودعوة المظلوم، ورجلٌ يدعو لولده ))
بر الوالدين سبب لمغفرة الذنوب، وزيادة في العمر و الرزق:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال:
(( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله أذنبت ذنبا كبيراً، فهل لي من توبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك والدان ؟ قال: لا، قال ألك خالة ؟ قال: نعم قال فبرها إذاً ))
حديث صحيح، أخرجه الترمذي والإمام أحمد وابن حبان والحاكم
وهذا حديث لطيف، يعني إذا كان إنسان توفيت أمه وله خالة فالإحسان إلى الخالة بمثابة الإحسان إلى الأُم.عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه ))
حديث أخرجه أحمد في مسنده، ورجاله رجال الصحيح
وقال عليه الصلاة والسلام:
(( من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره ))
حديث صحيح الإسناد، أخرجه الحاكم في مستدركه
وعن ثوبان رضي الله عنه ن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ))
حديث صحيح الإسناد، أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم
ثلاثة أحاديث عن أن بر الوالدين يزيد في العمر وفي الرزق.
بشارة للمقصّرين كي يتداركوا:
[من زار قبر والديه ودعا لهما غفر له وكتب بارا]ورد في الأثر:
(( إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله باراً ))
هذه بشارة، فلو أن أباً مات غاضباً على ابنه، فهذا الابن العاق دعا لوالديه واستغفر لهما وفعل الأعمال الصالحة من أجلهما، ربما كتبه الله باراً ولو مات أبوه غاضباً عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك ))
حديث رجاله رجال الصحيح غير واحد وقد وثق، أخرجه الطبراني والإمام أحمد عن أبي هريرة
وفي الأثر:
(( من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر الله له وكُتب باراً ))
بعض القصص المتعلقة بموضوع بر الوالدين:
بقي علينا بعض القصص المتعلقة بهذا الموضوع:
1- كما تدين تدان:
قيل: كان رجل يطعم والده المُسن طعاماً في إناءٍ من الخشب ـ الآن يوجد كأس من البلور وكأس من الإستالس، فيريد الوالد كأس من الماء فيعطيه ابنه كأس الإستالس لأنها لا تنكسر ـ فكان هذا الرجل يطعم والده المُسن في إناءٍ من الخشب، فسأله ولده عن السبب في هذا، الابن الصغير سأل أباه: لماذا تطعم جدي في هذا الإناء الذي هو من الخشب ؟ فقال له: لأنني إذا أطعمته في إناءٍ صينيٍ أو من الزجاج كسره، فقال له ابنه: إذاً يا أبت سأحتفظ لك بهذا الإناء الخشبي حتى أُقدم لك طعامك فيه عندما تكون في سن جدي، فعند ذلك انتبه الوالد وأدرك أن ما يفعله الآن مع والده سيفعله ابنه معه، وتاب إلى الله من هذا الذنب.
أقل استهانة أحياناً تهين الأب، كأن يقدم له فنجاناً فيه عيب، ويقول: خذ اشرب بلهجة المتذمر، أو كأس متسخة فيحزن الأب، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم ))
حديث أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن عمر
2- يشتكي أمه وينسى فضلها:
قيل: إن رجلاً شكا إلى نبي سوء خلق أمه، فقال:
(( لم تكن أُمك سيئة الخلق حين أرضعتك حولين كاملين ؟ ولم تكن سيئة الخلق حين أسهرتها الليل، ولم تكن سيئة الخلق حين رعتك، لقد جازيتها بهذا ؟ ))
هذا الذي يذم والديه ليس مؤمناً.
3- الولد ملك لأبيه:
ولد اشتكى إلى النبي عليه الصلاة والسلام أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به فإذا هو شيخٌ يتوكأ على عصا فسأله، فلعله قال: يا رسول الله إن ابني وهو صغير كان ضعيفاً وأنا قوي، وكان فقيراً وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيفٌ وهو قوي، وأنا فقيرٌ وهو غني يبخل علي بماله، فبكى النبي عليه الصلاة والسلام وقال للولد:
(( أنت ومالك لأبيك ))
من حديث صحيح،أخرجه ابن ماجة عن جابر بن عبد الله
4- آداب بعض البررة:
ـ قيل لعمر بن ذر: كيف كان برّ ابنك ؟ قال: " ما مشيت نهاراً إلا ومشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته ".
ـ قيل لعلي بن الحسين: أنت من أبر الناس بأمك، ولكن لماذا لا تأكل معها ؟ قال: " والله أخاف أن تمتد يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها ".يعني: قطعة من اللحم في الصحن وهي عينها على هذه القطعة،فإن أكلتها أنا أكون قد عققتها... كانوا إلى هذا المستوى.
ـ أبو يزيد البسطامي رحمه الله قال: " كنت ابن عشرين سنة، فدعتني أُمي لتمريضها ذات ليلة فأجبتها، فجعلت يدي تحت رأسها، والأخرى أمسِّد يدها بيدي، وأقرأ ( قل هو الله أحد ) فخدرت يدي، فكدت أفقد قوة اليد، فقلت: اليد لي وحق الوالدة لله ".
هذا من بره لأُمه.
5- ترجو هي حياتك، وترجو أنت موتها:
ورجل قال لسيدنا عمر: " إني أخدم أُمي كما كانت تخدمني في الصغر فهل قمت بحقها ؟ فقال: لا، إنها كانت تخدمك وهي تتمنى لك الحياة، وأنت تخدمها وأنت تتمنى لها الموت ". وبعبارة أخرى أو مهذبة: ( أن يخفف الله عنها ).
6- الأم الصابرة المحتسبة:
كان رجلٌ يجلس إليَّ، فبلغني أنه نزل به الموت وإذا أُم عجوز كبيرة جعلت تنظر إليه حتى غُمِّض وعصِّبَ وسُجّي، فقالت: رحمك الله يا بني لقد كنت بنا باراً، وعلينا شفوقاً رزقنا الله عليك الصبر، فقد كنت تطيل القيام وتكثر الصيام، فلا حرَمَكَ الله ما أملت من رحمته، وأحسن عنك العزاء، ثم نظرت إليّ وقالت: لو بقي أحدٌ لأحد لبقي النبي عليه الصلاة والسلام لأمته.كل حالٍ يزول، لذلك يقال للميت كما في الأثر: " رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت ".
وأخيراً:
من خلال هذه الآيات والأحاديث والتعليقات والأحكام الفقهية والقصص يتبين لنا أن بر الوالدين بابٌ كبير من أبواب الجنة.
(( رَغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكِبَر فلم يُدْخِلاه الجنة. قال الراوي: وأظنه قال: أو أحدهما ))
من حديث صحيح، أخرجه الترمذي
فمن كان له أب على قيد الحياة أو أم، أو من كان له أب وأم، فليغتنم هذه الفرصة، لأن الله عزّ وجل أمرنا أن نحسن إلى الوالدين وقرن هذا الأمر بعبادته..
والحمد لله رب العالمين"-انتهى الإستشهاد-
وتحصيل البرور رغم أهميته قد لا يغني عن بقية الأعمال الصالحة لوجه راجح، لكنه ميسر لها ودافع إليها، وقد يكون هذا معنى الحديث المتقدم في مطلع المقال، بأن البار ليفعل ما يشاء فمصيره الجنة.
ربما لأن البرور قد لا يحرزه إلا ذي فضل، وما دام حرص عليه، فهو على ما سواه أحرص، لأنه صاحب طبع مرهف سليم وذوق طبيعي إيجابي، قد لا تخطئ طريقته في السير إلى رضوان الله، بقية شعب الأعمال الصالحة المتنوعة.
ومما يؤلم في هذا السياق أن كل مصادر الأخبار الاجتماعية المطلعة جدا، أصبحت تؤكد أن الواقع العائلي في بلدنا يعيش تزايدا مقرفا ملفتا لظاهرة العقوق والعياذ بالله.
فبعد أن كانت تسجل بعض الحالات المعزولة المحمودة عند الشرطة أو المحاكم، أو يتم الحديث عنها بصورة محدودة أيضا، نظرا للتقزز منها والنفور من ذكرها، لأسباب عدة، إلا أن الحد والعدد بلغ حد الانتشار الواسع للأسف البالغ.
ولعل عدد حالات الطلاق أصبح يساعد على تفتشي الظاهرة السيئة الغربية، فتحرض بعض المطلقات -غيرة على من طلقها- أبناءها عليه بمختلف صنوف العقوق الزعاق، وضد زوجته الثانية علها تنفس بعض غضبها منه، وقد قدر الله أنه طلقها، لسبب وجيه أو غير ذلك، إلا أنها تتجاوز الموضوع غالبا إلى الانتقام الأعمى، ليخسر أولاده جميعا ولطول حياته، فلا يذوق طعم الأبوة أبد من أبناء زوجته المطلقة على الأقل !ا!.
ورغم أنها تخسر معه، فتربى أبناءا بلا دين ولا قيم!!!.
ومع مرور الوقت يدفع الفريق الثلاثي المتمرد الثمن غاليا.
الأب المتمرد لأسباب موضوعية أو غير موضوعية من الزواج والاستمرار مع أم الأطفال، والأم المطلقة الغيورة إلى حد الجنون والظلم بالانتقام الأعمى المفتوح على جميع الاحتمالات، حتى على أن تسحره أحيانا فلا ينجب الأبناء من بعده، والأبناء الواقعين تحت عدوى أو بيئة وإفرازات التجربة العائلية المفككة، لوجود بيئة اجتماعية طاردة لقيم التفاهم والتعايش الإيجابي والاحترام المتبادل، فيكون مصيرهم اقرب –أي الأبناء- للضياع بعقوق الأب أولا والأم ثانيا والمجتمع ثالثا، بما في ذلك من تسيب مدرسي وتربوي وأخلاقي واسع، وإضطراب نفسي مستمر حتى الموت، وربما جملة وتفصيلا عقوق كل قيم الحياة السليمة، فيصبحوا –للأسف البالغ- عاقين أشقياء بامتياز دون أن يدركوا الأمر والحصيلة المرة المريرة، إلا في وقت متأخر، وربما لات حين مناص.
إن العقوق مؤلم في حق الآباء والأمهات على السواء، وتعافه كل نفس سليمة، وقد يقع في الأسر المتماسكة، تحت ضغط الجهل وضعف التربية وسوء تسيير الجيل الصاعد، وما لاح ينتشر منه في مجتمعنا الموريتاني الحالي، بغض النظر عن نوعيته، أصبح منذرا فعلا بفقدان الأمة الموريتانية لوقارها وجل أخلاقها الإسلامية الجامعة المانعة من الضياع والتيه نحو المجهول.
وقد قيل على لسان احد الشعراء المعاصرين:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إننا على مشارف عهد جديد، وإن أستمر الوضع الراهن واستمر كذلك تجاهل الواقع الآسن الحالي، خصوصا في هذا الباب الخطير بامتياز صارخ، فلا نستغرب أن تتعدد حالات ضرب الآباء والأمهات، على يد أبنائهم أو بناتهم الفجار، لأننا لم نعترف بخطورة الظاهرة في الوقت المناسب، ومازال ربما الأمر متاحا بعض منه العلاج، إن تحركنا بسرعة كبيرة كافية، وإلا فإن القادم أخطر وأدهى وأمر، رغم مرارة ما يظهر بشكل حقيقي مزعج مؤلم من حالات العقوق المتكاثرة العلنية المكشوفة، والتي بدأت فعلا تستعصي على المجتمع والجهاز القضائي العقابي، فأضحت تتزايد دون توقف أو علاج أو بحث عن الأسباب والدوافع وطرق الحل أو الحلحلة على الأقل.
وأما ما وصلت إليه بعض المجتمعات العربية أو الغربية من تخصيص دور العجزة لكبار السن، والرمي بالوالدين في الإهمال الحقيقي المعنوي والمادي والصحي، فربما يكون أقل إيلاما، مما يقع من هجران بين الآباء والأبناء عندنا أحيانا، وأصبح شائعا متواترا، ولا يستطيع أي كان التكذيب عن انتشاره، وكأن إحسان الوالدين، تحول إلى مبرر لمقاطعتهم واحتقارهم، وربما الاعتداء عليهم جسديا والعياذ بالله تعالى، بعد مختلف صنوف الاعتداء والإزدراء!!!.
يا حفيظ...يا حفيظ....
وقد يساعد بعض الآباء على مثل هذا الواقع الذي يرثى له، إلا أن أغلب التقصير والخطأ بصراحة مرده إلى ضعف قيم الجيل الصاعد الجديد بوجه خاص، فهو جيل مسته العولمة وأضرت به بشكل بالغ وفتكت بمنظومته الأخلاقية فتكا، وتربى في حضن تعليم فاشل وأسر مفككة، يسحق أغلبها الطلاق، وهو أبغض الحلال إلى الله، ويهتز له عرش الرحمان.
وكل هذه العوامل من جهة الإبن أولا وربما الوالد والأم ثانيا ثم بقية جهات التاثير السلبي التربوي والتعلمي والإعلام المفتوح غير المراقب، أو ربما المستحيل الرقابة، وقد يكون تضافر مجمل هذه العوامل، كرس هذه الظاهرة المشينة المقلقة إلى حد الحيرة والدهشة.
فكل شيء يستساغ فهمه ربما، إلا العقوق الصريح المجاني، وهو كثير دون حصر، في أيامنا هذه، وقد حان وقت البوح فعلا، عسى أن نقف على الجرح النازف في الأواني المناسب، طلبا للإغاثة قبل هلاك الأمة برمتها.
قال الله جل شأنه: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".