لأنهم أمنوا العقاب والجزاء ساء أدبهم، فتناسلت بينهم شنشنة تواصوا بها، جربا يعدي به السقيم الصحيح، ويعلمه الصنعة ويورثه الحرفة، حرفة الغلول وإضاعة الحقوق وتصعير الخدود وإدامة العقوق، لأمة ووطن يتقاضون نهاية كل شهر من خيراته جعلا، راتبا معلوما ،
كما سائر خلق الله من الموظفين والعمال، باختلاف أصنافهم ودرجات سلمهم الوظيفي.
ومن نعنيهم ونومئ ونشير إليهم، تلميحا وتصريحا ، هم فئة وطائفة من الموظفين ، استأمنهم المجتمع على مصالحه وشؤونه في مرافق الدولة الخدمية المختلفة، فخانوا أمانته وأحالوا ما استودعوه مغرما يأخذون بواسطته المكوس والإتاوات، غلولا و رشى في وضح النهار، يتبجحون بها ولا يخفونها أو يستترون بستر الله، حتى أصبحت نصيبا مفروضا وحقا معلوما، لا يجادل فيه أو يأبى الانصياع له إلا المضيعون لمصالحهم، أو على الأقل من أوتوا صبر أيوب في تحمل اهانات هؤلاء الغارمين، في سبيل جيوبهم.
ذلك واقع نتجرعه كل يوم ولا نكاد نسيغه، لكننا بسكوتنا الأخرس عليه والرضى والقبول به، نساهم في استشرائه واستفحال أمره، وكأننا نشد على أيدي مقترفيه، ونمدهم في غيهم، ومجاهرتهم بالسوء، وتعديهم على حقوق وأموال ومصالح الناس، وخيانتهم العهود ونقضهم المواثيق وحنثهم الأيمان المغلظة، التي لا تجاوز حناجرهم.
وقصص هؤلاء ونوادرهم، بينها وبين بخلاء الجاحظ شبه ونسب وصلة رحم، قوامها الشح وناظمها الجشع، إلا أن بخلاء الجاحظ ظرفاء خفيفو الظل، وأصحابنا واجمون تتمعر وجوهم ولا تنبسط إلا للدراهم والدنانير التي يقبضونها لقاء تصرفهم على معاملات هي من اختصاصهم، لكنهم مردوا على أخذ السحت مقابل التصرف على الحقير والنقير و القطمير، من الغني والفقير، وحتى من الذين لا يجدون ما يسدون به خلة يومهم.
وقد زاد من تغول هؤلاء ومجاهرتهم بأخذ الرشوة، تجفيف منابع الفساد التقليدي، وضرب أوكاره ، ونقض غزله، السنوات الماضية، حيث كانوا يرتعون ويسرحون ويمرحون في المال العام، الذي مضى عليه حين من الدهر دولة بين من أسرعت بهم حظوتهم لدى من يملكون أرزاق الناس وأقواتها، حتى إذا منعوه ولم يعد هملا ولا حملا وديعا تسيل له لعاب الذئاب، أعادوا الكرة، لكن هذه المرة من باب تعاطي الرشوة، ولسان حالهم يقول إن لم تكن إبلا فمعزى.
فالمهم في عرف هؤلاء، وفي شريعة غابهم، أن يأخذك حظك العاثر، إلى أحضان إحدى المرافق الخدمية ، التي تمثل ناد لهم يأتون فيه منكر الرشوة، لتجد نفسك بالخيار بين أن تترك وتتخلى عن ما جئت من أجله من مصالح وشؤون وبين أن توقع عقد إذعان تقدم بموجبه قرابين ما أنزل الله بها من سلطان.
قد يحاجج البعض بأن الدولة ومصالحها الرقابية تتحمل المسؤولية في إرخاء الحبل على الغرب لموظفيها الفاسدين- وفي ذلك بعض الوجاهة- الا أن محاذير ومعاذير المجتمع هي حصن هؤلاء المنيع ، وركنهم المكين، الذي يحميهم من المساءلة ويعفيهم من المحاسبة، بالتستر عليهم تارة ، وطمس معالم ما يقترفونه من جرائم الرشوة طورا آخر.
فلو ضجت الضحايا بمظالمها، وأخرجتها من سرداب الهمس والنجوى، إلى بوح مدو يعري المرتشين ويفضحهم، لكان لمآلات الأمور وجهة أخرى، غير ما تعرفه أروقة بعض المرافق الحساسة ، من تضييع لحقوق متعهديها والمتعاملين معها ،من طرف صغار الموظفين "المكومسين" بضم الميم وفتح الكاف وتسكين الواو وكسر الميم، ولوجدت أجهزة الرقابة المختلفة الدليل المادي الذي يدين هؤلاء ويجلبهم إلى العدالة، حيث يستحقون وحيث يجب أن يكونون.
أما إذا رضينا من الغنيمة بالإياب وفضلنا طريقة النعامة في اتقاء الخطر، فلا نأمن أن تصبحنا يوما ظواهر أخرى، يتضاءل إلى جانبها خطر من نرفع اليوم عقيرتنا في وجوههم، اتقاء شرهم والتحذير من ضررهم، وهم لما يشتد عودهم ويستفحل أمرهم، الذي مازال في دائرة تغيير المنكر باللسان الذي هو أضعف الإيمان....فمن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام.
ولكن الذي لا مراء فيه أن النفس البشرية تشب عن الطوق، كلما أصابها الزهو والخيلاء والعجب، أو اطمأنت إلى الإفلات من المحاسبة والمساءلة، وهذا ما نعتقد أنه حال أصحابنا......أو ليس من أمن العقاب ساء أدبه.